تصعد سوق الأسهم يومًا وتتراجع في آخر، وهذه هي طبيعتها، وتتفاوت الأسهم ارتفاعًا وهبوطًا على مدار الساعة، وفقًا لتغير “التوقعات” وظهور “المفاجآت”، وذلك تبعا لتحليل أساسيات الشركة والقطاع الذي تنشط فيه، فضلا عن عشرات العوامل الحسابية والاقتصادية الأخرى، بالإضافة لـ”حالة السوق” أو موقفه تجاه سهم بعينه أو “الروح المعنوية” للسوق أو مؤشر الخوف والطمع كما يُعرف بصيغة أخرى.
ولكن كيف تصعد الأسهم وتهبط؟ ولماذا وكيف يختلف تقييم التوقعات في السوق عن “المفاجآت”؟ وكيف ينعكس كلاهما على السوق بشكل مختلف؟ وهل يمكن التنبؤ بحركة السوق واتجاهاته وفقًا لتقييم التوقعات واستباق “المفاجآت” أم لا؟
تقلب أسهم “ميتا” مثالا
على سبيل المثال، بين نهاية يناير 2023 ونهاية يوليو من العام نفسه ارتفع سهم شركة “ميتا” من 147 دولارا للسهم إلى مستوى 325 دولاراً، أي بزيادة تتخطى 121% في فترة ستة أشهر، بما يثير التساؤل بطبيعة الحال عن توصيف الأسواق بأنها “ذات كفاءة” إذا كان سهم يتضاعف بهذه النسبة في تلك الفترة القصيرة.
وهنا يمكن القول بأن سوق الأسهم قام بتسعير المتغيرات والتوقعات في الشركة، فقبل عام وحتى نهاية يناير الماضي تقريبًا كانت التوقعات بمستقبل “ميتا” سلبية، بما دفع سهم الشركة للتراجع من قمة سعرية بلغها في سبتمبر 2021 عند 378 دولاراً للسهم الواحد حتى هبط إلى 90 دولارا في نوفمبر 2022، أي أنه فقد 77% من قيمته في 14 شهرًا، فما الذي حدث بين انخفاض حاد وارتفاع سريع؟!
هناك أمران سببا كلا من الارتفاع والانخفاض، أولهما منطقي وقائم على التحليل والرشادة، والثاني متعلق بالانطباعات والجوانب النفسية للسوق.
أما عن الجانب الأول، فعندما انخفض سهر الشركة بشدة كان ذلك بسبب جمود أو توقف نمو أعداد المشتركين الجدد في تطبيقات “ميتا” لأول مرة في تاريخ الشركة، بما يوحي بأن منحنى الشركة قد يكون في سبيله للتراجع بعد بلوغ قمته، ويؤكد أن الرهان حول مضاعف أرباح يتخطى المتوقع في غير محله، لأن الرهان على مثل تلك الأرقام المرتفعة لمضاعف الربحية هو بالأساس على المستقبل وليس الحاضر.
كما أن الشكوك حول مستقبل “الميتافيرس” كانت كبيرة، في ظل تقارير تشير إلى أن الزمن المتوقع لإطلاق هذا العالم الافتراضي بكامل قوته لن يقل عن 10 سنوات بعد توقعات سابقة بتوغل سريع لـ”ميتافيرس” يجعله منافسًا للإنترنت التقليدي خلال 3 – 5 سنوات فحسب.
الجانب “النفسي”
هذا الأمران “المنطقيان”، فرضا ضبابية حول مستقبل “ميتا” بما دفع سهمها للتراجع، ولكن لا يجب نسيان العامل النفسي، في ظل ما كشفته “سي.إن.إن” إبان فترة تراجع سهم الشركة بأن 77% من المتعاملين في سوق الأسهم يرون أن الاستثمار في “ميتا” محفوف بالمخاطر في تلك المرحلة.
في المقابل ومع تحقيق الشركة لنتائج إيجابية، تضمنت عودة المشتركين الفعالين للزيادة مجددًا على تطبيقات ميتا من جانب، وعودة الحديث حول اقتصادات الميتافيرس العملاقة من جانب آخر بشكل مكثف، لا سيما مع ازدياد التقارير التي تشير إلى أنه قد يكون أكثر أمنًا من الإنترنت التقليدي الحالي، أي أن الزيادة جاءت نتيجة لنتائج حالية منطقية، وتوقعات للمستقبل أيضًا.
والشاهد هنا أن 100 محلل لشبكة “سي.إن.إن” قدروا يوم 29 يوليو أن سعر السهم لن يزيد على 435 دولارا كحد أقصى خلال السنة المقبلة، ولكنه قد يتراجع إلى 100 دولار خلال الفترة نفسها، بما يعكس أن الأداء الجيد للشركة في الربعين الأخيرين هما “التوقعات” والتي تم تسعير نسبة كبيرة منها، بينما المخاوف من الأداء السيئ هو المفاجأة التي ستهوي بالأسهم بعد ارتفاع كبير.
وباستقراء تحركات أسهم “ميتا”، التي تم طرحها كمثال لتعدد العوامل المؤثرة عليها، يمكن للمتداول أن يقرر شراء السهم أم لا، والمستوى المناسب للشراء والبيع، وفقًا لتقديراته لمدى تسعير التقديرات والتوقعات، وللمفاجآت “الممكنة”، وبناء على ذلك يقرر حجم المخاطرة في الاستثمار ومدى استعداده لتحملها.
الحدس
ولكن هل يمكن القول بـ”منطقية” سوق الأسهم في ظل أن دراسة أمريكية لجامعة “شيكاغو” تؤكد أن قرابة 85% من المستثمرين ليس لديهم خطة واضحة في سوق الأسهم، بل حتى لا يستطيع غالبيتهم تمييز السهم “الجيد” أو المُقيم بأقل من قيمته الحقيقية، ويتركون استثماراتهم تتحرك وفقًا لاتجاهات السوق، فهو يشتري مع المشترين، ويبيع مع البائعين.
بل إن قرابة 35% من المتعاملين في السوق الأمريكي على سبيل المثال يتحركون وفقًا لـ”الحدس” فحسب، هذا مع ملاحظة أن “الحدس” قد يكون مفيدًا ولكن ذلك يقتصر على المستثمر الخبير الذي قضى سنوات طويلة في سوق الأسهم، فهذا يفيده في استكمال الصورة العقلية للسوق بأخرى متعلقة باتجاهات المتعاملين فيه، والتي كثيرًا ما تكون غير منطقية، وليس الحدس مفيدًا في حالة هؤلاء المفتقرين إلى الخبرات.
والشاهد هنا أن الكثير من المتعاملين في السوق أيضا يقوضون فكرة التعامل الطبيعي والمنطقي و”مكافأة الأسهم الجيدة” و”عقاب الأسهم السيئة”، وذلك بشراء الأولى وبيع الثانية، ومن ذلك ما يعبر عنه “وارين بافيت” بأنه كاد يفعل ذلك بسبب “رفض غير منطقي” وأفكار خاطئة”.
فـ”بافيت” كان يعتبر الاستثمار في أسهم التكنولوجيا بمثابة “خطأ استراتيجي” بسبب تقلبها الكبير (وهو ما يظهر من تحليل أسهم “ميتا” مثلا)، ولكنه مع ذلك غير رأيه بشراء أسهم “أبل”حتى أصبحت تقارب نصف أسهم الشركة (قرابة 45.5% في يوليو 2023) بما يؤكد تغييرا كبيرا في الأفكار.
فهل يتمتع كافة المتعاملين في سوق الأسهم بهذه الفكرة وهي “مراجعة” الأفكار بشكل مستمر ومراجعة مجالات الاستثمار.. الإجابة هي لا.
فعلى سبيل المثال فإن قرابة 80% من المتعاملين في سوق الأسهم الأمريكي لا يستثمرون إلا في سهم أو قطاع واحد أو قطاعين كحد أقصى فقط، لأنه يرى نفسه “خبيرًا” في هذا المجال بما يجعله قادرًا على تقييم أسهم شركاته بكفاءة وبالتالي يقبل على شراء تلك الأسهم دون غيرها.
أي المعرفة “مهمة” في السوق؟
وعلى الرغم من أن الخبرة في القطاع تعد عاملًا إضافيًا بالطبع في تحليل الشركات ومستقبل الأسهم، ولكن الأهم من ذلك هو تحليل القوائم المالية وتحليل حالة القطاعات الاقتصادية والاقتصاد الكلي واتجاهات السياسة العامة وغيرها.
ففكرة أن أكون مهندس حاسبات على سبيل المثال وبالتالي أتخصص في الاستثمار في شركات التكنولوجيا فحسب، أو متخصصا في النفط فأشتري أسهم الشركات النفطية أو الكيماوية فقط، ليست بالفكرة الصحيحة بالطبع.
ويقول “بيتر لينش” في كتابه “التفوق على وول ستريت” إن 90% من المستثمرين يرهقون أنفسهم بالبحث عن معلومات لن يستفيدوا منها وجل ما يفعلونه هو إرهاق أنفسهم لفترات طويلة، وهو ما يقول علماء النفس إنه يضطرهم في النهاية إلى العودة لـ”الخيارات الأساسية” أي بالاختيار بالحدس دون الدراسة، بعد إرهاق غير مبرر.
وإن كان شخص مثل “وارين بافيت” لديه من القدرة التي مكنته من الجلوس مع رئيس شركة “بي.واي.دي” الصينية قبل قراره بالاستثمار فيها أي أنه غالبا حصل على معلومات -حصرية- حول رؤية الشركة للمستقبل، لكن “لينش” في المقابل اعتمد في دراسته للسوق على البحث عن الجودة والفجوة السوقية.
وقاد هذا الفكر “لينش” للاستثمار في مقاهي “دانكن دونتس” وقاد المقهى للتحول من سلسلة صغيرة بـ7 فروع نهاية الثمانينيات إلى أخرى كبيرة تضم 1800 فرع بعدها بحوالي 20 عامًا فحسب، فضاعف استثمارات عملاق إدارة الأصول “فيدليتي” خلال 13 عامًا قضاها مديرًا للاستثمارات والأصول.
ويرى “لينش” أنه لا يمكن تجنب مفاجآت السوق بشكل كامل، ولكن القراءة والفهم والتحليل المستمر، لما يهم فحسب، فضلا عن الاستثمار في مجالات ذات آفاق نمو واضحة هو الذي يُجنّب المستثمر تقلبات السوق، ويمنحه القدرة على الخروج فائزًا منها.
اكتشاف المزيد من موقع نايفكو
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.