في سوق الأسهم أخطاء جوهرية تقودك لقراءة


“ثبات في الربحية في آخر 4 أرباع سنوية، وتراجع في أعداد العملاء الجدد، وبدء حملة تسريح 10% من العمالة تقليصًا للنفقات”، لو منحت هذه البيانات لأي محلل لأسواق لوصل لنتيجة مفادها أن هذه شركة لا تستحق الاستثمار فيها لأنه لا مستقبل لها، ولكي يصل المستثمر لهذه النتيجة فإنه يقوم بعملية تعرف بـ”الاستقراء”.

و”الاستقراء” هو مفهوم يقصد به تحويل مجموعة من البيانات والمعلومات إلى نتيجة واضحة، بحيث لا تصبح هذه البيانات غير ذات معنى، بل تتحول لوسيلة تستهدف الوصول إلى استنتاج واضح يعين على اتخاذ قرار، ولكن كثيرًا ما يكون هناك خطأ في قراءة الوضع والاستقراء بناء على بعض التحيزات وأهمها تحيز يعرف باسم “تحيز الاستقراء”.

التحيز للأحدث

ويقصد بهذا التحيز منح أهمية كبيرة للتطورات الحديثة على حساب تلك القديمة، لأنها تكون الأشد وضوحا في ذهنية المتداول، وبالتالي الأكثر تأثيرًا على قراره، وفي بعض الأحيان يتجاهل المتداول الأسس التي اتخذ قراره الاستثماري بالشراء في شركة أو برفض اقتناء أسهمها بناء عليها لينحاز فقط لمستجدات الأمور.

وتشير دراسة أجريت في السوق الأمريكي عام 2013، والذي شهد أفضل عائد له في أكثر من 15 عامًا، وتم فيها سؤال قرابة ألف متداول عن أسباب ارتفاع قيمة استثماراتهم في الأعوام الأخيرة، فأشار 86% منهم إلى أسباب قصيرة المدى للغاية، مثل أداء بعض الشركات في بعض أرباع العام، أو قرارات حكومية حديثة.

ولم يمنح الغالبية الأسباب الحقيقية وعلى رأسها ارتداد السوق من الأزمة المالية، وتحسن معدلات النمو الاقتصادي والتشغيل وغيرها من المؤشرات الهامة.

والشاهد أن تحيز الاستقراء، والذي يعرف أيضا بتحيز الحداثة، يؤدي إلى المنحيات الصاعدة والهابطة باستمرار في السوق، فلو أن مستثمرا ما قرر أن شركة “أ” فرصة استثمارية جيدة لوضعها في السوق تنافسيًا ولطبيعة إدارتها ولاستقرار قوائمها المالية، فإن تذبذب الأرباح في ربع واحد لا يجب أن يكون كفيلًا بدفعه لبيع السهم، هو وغيره وبالتالي انخفاض سعر السهم، ولو مرحليا.

“ألفابت” مثالًا

ويمكن أخد سعر شركة “ألفابت” الأم لجوجل كمثال صارخ على التقلب الناتج عن التغيرات الأحدث وليس الصورة الأشمل للشركة أو لسعر السهم، فعلى سبيل المثال شهد السهم انحدارًا شديدًا للغاية في قيمته خلال عام 2022 وصل إلى أنه تراجع بنسبة 40% خلال عام واحد.

فما كانت الأسباب وراء هذا التراجع؟ يمكن القول إن هناك 3 أسباب رئيسية، الأول كان صعود “تيك توك” اللافت بحيث أصبح الموقع رقم واحد في عدد الزيارات عالميا، متخطيًا جوجل، فضلا عن التهديد الذي يشكله التطبيق الصيني بوضوح لـ”يوتيوب” وهي إحدى منصات الشركة.

 والسبب الثاني هو تراجع زخم الاستثمارات الفردية في السوق الأمريكي والذي وصل قمته عام 2021، أما السبب الثالث فكان قيام الشركة بتسريح العمالة في بعض مكاتبها، بنسبة تخطت 10% في بعض الحالات، بما أثار مخاوف من الاتجاه للانكماش مستقبلًا.

 متغيرات هامة ولكن

 وهذه المتغيرات على درجة عالية من الأهمية بالفعل، ولكن هل يبرر هذا انخفاض سعر السهم من قمة تخطت 140 دولارًا إلى مستوى دون 87 دولارًا للسهم في عدة أشهر فحسب؟

 الإجابة الواضحة هي لا، لأن أساسات الشركة بقت كما هي، فعدد مستخدمي محرك البحث المعروف لم يتأثر بل استمر في الارتفاع ولكن زيادة “تيك توك” كان ضخمة للغاية بحيث تخطى “جوجل”، كما أن محرك البحث العملاق بقي مهيمناً على سوق البحث عبر الإنترنت بنسبة 92% كما هو ولم تتراجع نسبته.

 وبقيت “جوجل” مهيمنة على سوق نظم تشغيل الجوالات بنسبة 71% بينما تقتسم أنظمة أخرى أبرزها “أي.أو.إس” و”ويندوز” و”هواواي” النسبة الباقية، بل واستمر عدد مستخدمي “يوتيوب” النشطين في النمو ولم يتراجع.

كما لم تشهد إدارة “ألفابت” أي تغييرات هامة، ولم تشهد التشريعات تأثيرًا ضخمًا عليها أيضا، أي أن البيئة الداخلية والتشريعية التي تعمل فيها الشركة ظلت مواتية، وهما عاملان مؤثران هامان للغاية في تقييم وضع الشركات وإمكانية تغييره مستقبلًا.

 ولذلك فإن هذا التراجع كان مرتبطًا بإعطاء المتغيرات الأحدث وزنًا نسبيًا أكبر من حقيقتها، وذلك على حساب المتغيرات الأقدم التي قد تكون أشد تأثيرًا وأهمية، وهو ما تأكد من الارتفاع الضخم الذي شهدته الأسهم بنسبة 44% منذ ديسمبر 2022 إلى ديسمبر 2023، ليعوض السهم خسائره “غير المنطقية” بل ويحصد الأرباح.

 بي واي دي والمخاوف الأحدث

 مثال آخر مناقض لـ”ألفابت” وهو شركة “بي واي دي” الصينية التي شهدت انخفاض سعر سهمها بنسبة 26% بين ديسمبر 2022 وديسمبر 2023، بفعل عناصر متعددة أهمها مخاوف من السباق المستمر بينها وبين “تسلا” على إنتاج السيارات الكهربائية، والمخاوف من استمرار الحروب الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة وتأثير ذلك على الشركة.

 ويبدو هذا الأمر مستغربًا في ظل أن الشركة الصينية تمكنت في الواقع من وضع قدم لها في سوق السيارات الكهربائية وأصبحت الفجوة بينها وبين تسلا 4-5% خلال العامين الأخيرين، كما تستمر في التوسع في إنتاج السيارات التقليدية.

 بل إن مداخيل الشركة استمرت في النمو بشكل متصاعد خلال آخر 7 سنوات (باستثناء عام 2020 بسبب كورونا) وحققت خلال كافة السنوات أرقام أرباح موجبة ولم تحقق خسائر، هذا مع تمتعها باستمرار بمضاعف أرباح يقل كثيرًا عن منافستها “المنطقية” تسلا.

 ويمكن القول إن بعض المخاوف المتعلقة بزيادة الفجوة بين بكين وواشنطن سياسيًا واقتصاديًا كانت السبب في تراجع سعر “بي واي دي”، على الرغم من أن الفجوة الواقعية والمتمثلة في فرض رسوم وما إلى ذلك لم تتسع خلال العام الأخير الذي شهد تراجع سعر سهم الشركة.

وهو ما يجعل للمخاوف من التغيرات الحديثة تأثيرًا أشد من “حقائق الشركة” أي أنه وقوع أيضا في فخ تحيز الاستقراء، لا سيما أن سعر سهم “بي واي دي” ارتفع بأكثر من 240% إجمالا خلال السنوات الخمس الأخيرة اعتمادًا على حقائق الشركة في السوق.

 والشاهد أنه في حالتي “ألفابت” و”بي واي دي” يمكن أن تظهر بعض التطورات شديدة الأهمية التي تغير واقع الشركة، وبالتالي يكون انخفاض سعر سهمها أو ارتفاعه منطقيًا ولكن بظهور تحيز الاستقراء تكون الكثير من التحركات غير منطقية، وغير مكافئة لحجم التغيير المطلوب في سعر السهم، الذي يفترض أن يعكس “قيمة” الشركة.

 لهذا تفشل تحليلات خبراء كثيرين

 ويشير المؤلف الاقتصادي والمحلل المالي “دان غاردنر”، مؤلف كتاب “Future Babble” والذي يهتم بتفسير ظاهرة فشل تخمينات الخبراء لأسواق المال، إلى أن السبب الرئيسي لذلك هو وقوع هؤلاء الخبراء في تحيز الاستقراء أو عدم تحسبهم له بالحد الأدنى.

 ويلفت “غاردنر” إلى تجربة المستثمرين مع القطاع الغذائي في الفترة بين 1961 حتى عام 2000، حيث استمر الكثير من المستثمرين بالنأي بأنفسهم عن الاستثمار في القطاع الغذائي سواء بشكل مباشر أو عبر شراء أسهم شركات الأغذية في ظل المخاوف المستمرة من تقلب سوق الغذاء.

 ويشير “غاردنر” إلى أنه مع الزيادة السكانية الكبيرة على مستوى العالم فإن عدد السعرات الحرارية التي يتناولها الشخص نمت في هذه الفترة بنسبة 24% أيضا، بما يؤشر لكون النمو في عدد المستهلكين وفي كمية استهلاكهم أي أنه نمو “متكامل” كما يقول.

 وعلى الرغم من ذلك فإن نسبة لا تتعدى 5% من المستثمرين في السوق الأمريكي، ونسبة لا تتجاوز 10% من المستثمرين في أسواق أمريكا اللاتينية، والتي يعتمد الكثير منها على الزراعة بصورة كثيفة استثمروا أموالهم في الشركات الزراعية، وقرر غالبيتهم الذهاب إلى الشركات الصناعية أو التكنولوجية.

 ويعتبر “غاردنر” أن الشركات الزراعية هنا ضحية “تحيز الاستقراء”، حيث إن موسم حصاد سيئ واحد، أو الخشية من تأثيرات الجفاف أو الفيضانات أو غير ذلك كفيلة بالتأثير على أسعار الأسهم بشكل كبير بما يجعلها متذبذبة صعودًا وهبوطًا بشكل يفوق الأسهم الأخرى لذا يخشى المستثمرون باللجوء إليها بينما تجذب بعض المضاربين بما يزيد من تذبذب المنحنى.

ويشير “غاردنر” إلى أن هذا يجعل غالبية نشاط الزراعة عالميًا معتمدًا بصورة كبيرة على الشركات التي يتحكم بها كبار المستثمرين بصورة كبيرة، لأنه يكون بوسعهم بهذه الطريقة تجنب التقلب الكبير في أسعار الأسهم لحساب الاستقرار في الاستثمارات.

 ويلفت “غاردنر” إلى أن قرابة 90% من المتداولين الذين تعامل معهم على الأقل يقعون في فخ تحيز الاستقراء بشكل مستمر، حيث يرهبهم المنحنى المنخفض ويغريهم المنحنى الصاعد، حتى وإن كان أيهما منحنى قصير مؤقتًا وفي سبيله للانعكاس، وهو ما يؤكد منح التطورات الأحدث فحسب بما فيها شكل المنحنى وزنًا نسبيًا كبيرًا.

 ويقول “غاردنر” في هذا الإطار عبارته الشهيرة “الأداء الماضي لا يضمن نتائج المستقبل، ولكن الحقائق كلها هي أفضل ضامن لذلك”، مشددًا على منح الحقائق ترتيبًا نسبيًا وفقًا للأهمية وليس لتاريخ وقوعها، وهذا قد يجعل بعض المستثمرين يبيعون أسهمًا أدت جيدًا في الفترة القريبة الماضية، ويشترون أخرى أدت بشكل سيئ لفترة قصيرة، اعتمادًا على الحقائق طويلة المدى ومدى تغيرها. 


اكتشاف المزيد من موقع نايفكو

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من موقع نايفكو

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading