لماذا ينجذب الكثير من المستثمرين إلى القطيع


تتعدد النظريات التي تحاول تفسير كيفية عمل سوق الأسهم، بين التي تعتبرها بمثابة سوق عشوائية تمامًا لا يمكن التحكم فيها أو توقعها، وبين التي تعتبرها سوقا كفوءة تعكس وبوضوح القيم الحقيقية لأسعار الأسهم، وتستجيب بشكل جيد لمتغيرات السوق والعرض والطلب وحقائق الشركات بما ينعكس في النهاية على سعر السهم ويجعله مقيمًا بقيمته الحقيقية.

غير أن أبرز ما يعترض تلك النظرية هو سلوك القطيع، أو ثقافة القطيع، في سوق الأسهم وهي ظاهرة تميل فيها مجموعات من المستثمرين إلى اتخاذ قرارات متشابهة، حتى لو كانت هذه القرارات غير عقلانية أو غير منطقية. ويمكن أن يؤدي سلوك القطيع إلى تقلب أسعار الأسهم بشكل كبير، ويمكن أن يكون له آثار سلبية على أداء السوق ككل.

لماذا “سلوك القطيع”

وتشير الدراسات إلى أن أكثر من 70% من المتداولين في سوق الأسهم يرون في السير في “ركب السوق” بمثابة وسيلة لـ”الشعور بالأمان”، حيث يعتقدون بذلك أنه إذا خسرت السوق فسوف يخسرون، وإذا ربحت فسوف يربحون، وبالتالي فإنهم لن يكونوا خاسرين وحدهم إذا اختلفت خياراتهم عن المجموع.

ويرجع موقع “تحليل السلوك الاقتصادي” هذا الأمر إلى رغبة المتداول في عدم الشعور بـ”الهزيمة” في سوق الأسهم، حيث إن قرابة 80% من المتداولين في السوق الأمريكية يعتبرون أن السوق “خصم” لهم، ولذا فإن السير في ركاب الاتجاه السائد في السوق يقلل من إحساسه النفسي بالهزيمة حال خسارته للأموال.

وفكرة اعتبار السوق خصمًا تبرز لدى البعض -على الرغم مما تحويه السوق من مئات بل آلاف المتغيرات إلا أنه يراه كثيرًا كطرف واحد- فإذا كان يمتلك سهمًا يرى من يبيعه خصمًا له لأنه يقلل سعره، ويرى إدارة الشركة خصمًا أحيانًا برفضها التوسع أو توزيع الأرباح، لذا فإن الحليف المؤكد هم هؤلاء الذين يتخذون قرارات استثمارية مشابهة لقرارات المُتداول ويدعمونه بشكل مباشر سواء بالبيع أو الشراء أو الاحتفاظ.

وهناك العديد من العوامل التي تؤدي بالمتداول إلى السير في ركب القطيع في السوق، لعل أبرزها نقص المعلومات، أو زيادتها (80% من المتعاملين في السوق يشكون الإغراق المعلوماتي)، فغالبًا ما يكون المستثمرون غير قادرين على الحصول على جميع المعلومات اللازمة لاتخاذ قرارات استثمارية عقلانية.

أو قد يعاني المستثمرون في ظل تعدد المعلومات التي يحصلون عليها وتضاربها عندما يحدث ذلك، لذا قد يميل المستثمرون إلى الاعتماد على آراء الآخرين، مما قد يؤدي إلى سلوك القطيع.

وفي هذا الإطار تشير دراسة إلى أن أكثر من 66% من المتعاملين في السوق الأمريكية يعانون من متلازمة “الدائرة المفرغة” (loop) والتي يحاولون فيها التوصل إلى قرار استثماري رشيد بدراسة المعطيات، ويرهقون وبالتالي وبعد وقت طال أو قصر يعتمدون في النهاية على نصائح الآخرين سواء سمسار البورصة أو الوكيل أو أحد المؤثرين على شبكات التواصل الاجتماعي أو تطبيق ذكاء اصطناعي.

الخوف يؤدي لسلوك القطيع

كما ينجرف المستثمرون إلى سلوك القطيع أيضًا بسبب الخوف من فقدان فرص الاستثمار المحتملة، ويشير أكثر من 70% من المتداولين في السوق الأمريكية إلى أنهم عندما يرون أن الآخرين يستثمرون في سهم معين بإلحاح، يشعرون بالحاجة إلى الاستثمار فيه أيضًا، حتى لو لم يكن لديهم فهم كامل للسهم أو الشركة.

كما أن تأثير وسائل الإعلام كبير على سلوك المستثمرين، فعندما تنشر وسائل الإعلام أخبارًا إيجابية عن سهم معين، قد يؤدي ذلك إلى زيادة الطلب على السهم، مما يؤدي إلى ارتفاع سعره، والعكس صحيح بما يفاقم ظاهرة القطيع في أسواق الأسهم بحدة.

ويمكن القول بأن سلوك القطيع ظاهرة عمرها عمر أسواق الأسهم حيث ظهرت في أول سوق للأسهم في العالم في أمستردام، وبالتحديد بعد 35 عامًا على بدايته حيث انهارت أسعار شركات الأسهم ووصل بعضها إلى 2% من قيمتها فحسب خلال بضعة أشهر بعد انهيار بدأ في شهر فبراير عام 1637.

وكان هذا الانهيار بسبب الرهان الجمعي غير العقلاني على ارتفاع السوق، والذي اعتمد بالأساس على تصدير الورود لذا كان حصاد سيئ واحد كفيلا بتحطيم السوق تماما.

بل وشهدت البورصات على مستوى العالم 14 أزمة بين عامي 1819 و1907 فحسب بسبب سلوك القطيع، حيث تصعد السوق أولا بسبب حمى الشراء ثم تتراجع بشدة بسبب الهلع، وتراوحث خسائر البورصات في تلك الحالات بين 22% و76%.

على هامش فقاعة “دوت كوم”

في أواخر التسعينيات، شهدت سوق الأسهم ارتفاعًا سريعًا في أسعار أسهم شركات التكنولوجيا الناشئة. كان هذا الارتفاع مدفوعًا بتوقعات ترجح نجاح هذه الشركات بشكل كبير في المستقبل. ومع ذلك، كان معظم هذا الارتفاع مدفوعًا بسلوك القطيع، حيث سارع المستثمرون إلى شراء أسهم هذه الشركات دون إجراء أي بحث جاد، بما أنتج فقاعة “دوت كوم”.

ووفقًا لدراسة أجرتها جامعة “ستانفورد”، ارتفعت أسعار أسهم شركات التكنولوجيا الناشئة في عام 1999 بمعدل 170%، وهو ما يوليه الكثيرون أهمية كبيرة في الدراسة لكن ما يغفلونه أن الشركات الكبرى الناجحة والرابحة في المؤشر ارتفعت بنسبة 25% فحسب في نفس فترة الفقاعة، بما يؤكد السلوك غير الرشيد للقطيع في اختيار شركات خاسرة أملا في مستقبل أفضل لها على حساب أخرى رابحة ومؤكدة.

(ولا يعني هذا عدم شراء أسهم خاسرة ولكن ذلك يجب أن يكون مقرونا باتجاهات وحقائق واضحة تؤكد متى وكيف قد تتحول الخسارة إلى ربح).

ويمكن التوسع في ذكر الأزمات التي حدثت بفعل سلوك القطيع أو ساهم فيها الأخير على الأقل لتشمل الأزمة المالية العالمية 2008، وأزمة صعود الأسهم غير المبرر إبان انتشار فيروس كورونا وغيرها، لكن في كل الحالات يبدو التاريخ يكرر نفسه بين صعود غير مبرر وهبوط سريع ومحاولات تخلص من الأسهم.

والشاهد أن تأثير ثقافة القطيع يكون أشد على المضاربين، حيث إن المضاربة بطبيعتها تميل لاستغلال الاتجاه السائد، وهو ما يفضي في النهاية إلى خسارة 98-99% من المضاربين، لأن دراساتهم غير وافية ولا تستند لحقائق الشركات ولكن لتقلبات السوق، والتي لا يمكن التحكم فيها أو حتى توقعها بشكل دقيق.

كيف يمكن للمستثمرين تجنب سلوك القطيع؟

والخلاصة هنا أن الأزمة الحقيقية في كون “ثقافة القطيع” تؤدي إلى ظهور الفقاعات في الأسواق، لأن الفقاعات تدور حول شراء المستثمرين للأسهم أو الأصول عمومًا يحدث “لأن الجميع يفعل ذلك”، بينما يتجاهل “الجميع” أيضا أن الارتفاع أصبح خارجاً عن السيطرة، وأن الأسعار المرتفعة ليست مبررة أو مستدامة.

ويرى “أنتوني مالوي” المحلل المالي في إدارة الأصول أن أكثر من 60% من المستثمرين الذين يتعامل معهم كثيرًا ما يلجأون لاتخاذ قرار بالسير في ركب القطيع في السوق على الرغم من تحليل الشخص نفسه ووكيله للسير ضد الاتجاه السائد، ولكنه يضيف أنه “من الصعب للغاية أن تسير في اتجاه ترى الجميع عائدين منه”.

وهناك العديد من الأشياء التي يمكن للمستثمرين القيام بها لتجنب سلوك القطيع، بما في ذلك:

إجراء أبحاثك الخاصة: قبل الاستثمار في أي سهم، من المهم إجراء أبحاثك الخاصة -المبنية على معرفة وعلم- لفهم الشركة. وسيساعدك ذلك على اتخاذ قرار استثماري جيد، والأهم من ذلك التأكد من توفر المعارف الرئيسية الخاصة بالسوق.

عدم الاعتماد على آراء الآخرين: من المهم عدم الاعتماد على آراء الآخرين عند اتخاذ قرارات استثمارية. بدلاً من ذلك، ثق في تحليلك الخاص.

مقاومة الغرائز: غالبًا ما يدفع الخوف من الخسارة المستثمرين إلى اتخاذ قرارات استثمارية سيئة، من المهم مقاومة هذه الغرائز والتركيز على الاستثمارات التي تتوافق مع أهدافك الاستثمارية، ولا شك أن المعرفة تساعد على مقاومة الغرائز.

والشاهد أن من تمكنوا من “التمايز” عن القطيع السائد في السوق حققوا المكاسب بمن فيهم “بنجامين جراهام” رائد “استثمار القيمة”، الذي حقق 20% كربح سنوي بين أعوام 1936-1956 بينما لم يتعد متوسط ربح السوق في هذه الفترة 12.6%، لأنه إذا كان غالبية من يدخلون السوق يخسرون فكيف للمستثمر أن يتبع خطاهم.


اكتشاف المزيد من موقع نايفكو

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من موقع نايفكو

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading