درج الكثير من المفكرين الاقتصاديين على افتراض “الرشادة الكاملة” فيمن يتعاملون في الاقتصاد، فهم يفترضون أن المستهلك على معرفة باختياراته في السوق ورغباته في الإشباع وموارده، ويتخذ قراره بالشراء وفقًا لذلك، وكذلك المستثمر يفكر بشكل رشيد في الجهد والوقت المبذول مقابل العائد.
ولكن الممارسات الواقعية كثيرًا ما نفت هذه الفرضيات في ظل أن طريقة تفكير المستهلك، أو المستثمر، هي التي تقوده في اتخاذ قراراته الاقتصادية، وأنها كثيرًا ما لا تتسم بالرشادة المطلقة التي يعتقدها الاقتصاديون، وهو ما يظهر في كافة أنواع النشاط الاستهلاكي أو الاستثماري.
كراهية “عدم اليقين”
ففي عالم أسواق المال مثلا، يلفت كثير من المحاضرين في الدورات التدريبية على الاستثمار في البورصة نظر المشاركين فيها إلى حقيقة أنه إذا خسر 50% من 1000 ريال وضعها في السوق، فسيصبح لديه 500 ريال، ولكي يستعيد رأسماله سيتوجب عليه تحقيق ربح 100% دونما تسجيل ربح.
ولهذه الحقيقة العقلية، ولكراهية الإنسان الطبيعية النفسية للخسارة، يسعى كثير من المتداولين لتحقيق ما يوصف بالربح المؤكد على حساب الربح المحتمل، وتشير بعض الدراسات إلى أن هذه نسبة تصل إلى 85% من المتداولين، وهم يتبعون في ذلك نظرية الاحتمالية prospect theory” ” التي تشير إلى أن غالبية الناس تكره الاحتمالات وتفضل اليقين.
ولهؤلاء يرد “جيم روجرز” المتداول الأمريكي الشهير بأن سوق الأسهم ليس مكانهم، لأنه عليهم إذا أرادوا تقليص احتمالات الخسارة إيداع أموالهم بالبنوك أو اللجوء لأشكال استثمار بها قدر أكبر من التحكم كالعقارات أو غيرها من الأسواق التي تتسم بالحركة البطيئة والقلة “النسبية” لعدد المؤثرات على الأسعار فيها.
ويشير “روجرز” إلى أن رغبته في التحكم في كافة أشكال استثماراته في البورصة والوصول إلى “الربح” المؤكد قادته في نهاية الستينات وبداية السبعينات إلى خسارة 25% من رأسماله الذي بدأ به، نظرًا لأنه كان يحاول توقع ردود أفعال كافة الأطراف في السوق وحسابها والوصول لاستنتاجات.
محاولات تفادي الخسارة تقود إليها
ويقول “روجرز” إن رغبته الشديدة في تفادي الخسارة كانت في الواقع السبب وراء خساراته، مشيرًا إلى أنه نجح منذ بداية السبعينات في “هزيمة السوق” كل عام، أي تحقيق أرباح تفوق متوسط أرباح المؤشرات الرئيسية فيه بانتظام، وهو ما حققه فقط بإقرار أن الخسارة جزء من السوق، وأن الخطط طويلة المدى يوسعها تلافي التقلبات والخسائر قصيرة المدى.
وكثيرًا ما يؤدي مفهوم الاحتمالية هذا إلى الرغبة في عدم الشعور بالخسارة من خلال وضع “رقم مرجعي” لاستثماره، فإذا اشترى المتداول السهم عند 100 ريال، ووصل السهم إلى 110 ريالات وكان بالإمكان ضخ المزيد من الاستثمارات في نفس السهم، لأنه من المنتظر أن يصل إلى 120 ريالًا في ظرف أشهر، فإن نسبة كبيرة من المتداولين ستحجم عن ذلك.
ويرجع السبب في ذلك إلى أنهم يشعرون كما لو كانوا خسروا فرصة بعدم شرائهم الأسهم عندما كانت بمائة ريال، على الرغم من أنهم في واقع الأمر يخسرون بعدم الشراء على مستوى 110 ريالات إذا ظهرت أدلة على استمرار ارتفاع السهم في المستقبل، ولكن أسلوب التفكير بالأرقام المرجعية يؤدي إلى مثل تلك الخسائر.
فقدان الفرصة والمحاسبة العقلية
وفي هذا الإطار يشير “بول ملادجنفيتش” مؤلف كتاب “Stock Investing For Dummies” إلى أنه تعرف على مدير لأحد كبار صناديق الاستثمار في الولايات المتحدة، وعرف منه أنه رفض شراء سهم ارتفع من مستوى 30 دولاراً إلى مستوى 50 دولاراً، وذلك على الرغم من أن تقديرات هذا المدير كانت تؤكد أن هذا السهم في سبيله للمزيد من الارتفاع.
ويرى “ملادجنفيتش” أن هذا المدير لم يفعل ذلك كنوع من العند أو الكبرياء، ولكن لشعوره بأنه فقد فرصة الارتفاع الأول للسهم على الرغم من أنه كان نشطًا بالأسواق وقتها، مشيرًا إلى أن هذا الأمر يعتبر نوعًا من “المحاسبة العقلية” التي تظهر بالأساس نتيجة لعدم النظر للربح والخسارة بمفهوم مطلق، ولكن بجعلها نسبية للشخص لما مر به.
ويؤدي هذا الوضع في تقييم “ملادجنفيتش” إلى أمرين: التمسك بالأسهم “تحت الماء” أي عدم بيع الأسهم التي يتأكد أنها في سبيلها لتكبد المزيد من الخسائر، حيث يرفض المستثمرون في هذه الحالة بيع الأسهم بأقل من سعر الشراء، حتى لو تدهورت أساسيات الشركة.
أما الأمر الثاني الذي يبرز في حالة مدير الصندوق المذكور فهو تفويت الفرص، فمن المحتمل أن يتجاهل المستثمرون الاستثمارات الجيدة لأن سعرها يبدو “مرتفعاً” مقارنة بمستوياتها التاريخية أو المستويات التي فوتها المتداول في وقت سابق.
تحييد العاطفة .. بالحسابات
وفي هذا الإطار يبرز المستثمر “جيم سيمسونز” وهو واحد من أبرز المتداولين عبر التاريخ بتحقيقه عائدا سنويا متوسطا 66% خلال 31 عامًا قضاها في الاستثمار بفعل قدرته على تحييد “مشاعر الخوف من الخسارة” التي تولدها “النظرية الاحتمالية”، وذلك من خلال اعتماده على نماذج استثمارية “كمية” تقوم على الأرقام.
ويقول “سيمونز” في هذا إنه يبحث دائمًا عن “أوجه الاختلال والتناقضات في السوق”، سواء كان ذلك على المدى القصير، بأن يجد مثلا سعر سهم يرتفع باستمرار قبل إجازات نهاية العام فيشتريه لشهرين فقط ثم يبيعه قبل الإجازات مباشرة أو بعدها مباشرة، أو على المدى الطويل بدراسة بيانات شركة أساسية و”الضوضاء حولها” -يقصد به طبيعة الأخبار- ثم اتخاذ قرار الاستثمار في تلك الشركة لفترة من الزمن.
ويشير “سيمونز” هنا إلى أنه في حالة التداول لفترات قصيرة بناءً على الاختلالات أو التناقضات في السوق لا يشغل نفسه كثيرًا بالأسباب، بل ما يعنيه أن هذا السهم سيرتفع وفقًا لنماذج البيانات بنسبة 20% خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، وبالتالي فإنه يستحق ضخ الأموال فيه، أما في حالة الاستثمار طويل الأمد، فإنه يهتم بدراسة أساسيات الشركة ونهجها والقطاع الذي تعمل به.
وبسبب نجاعة معادلاته الحسابية، التي أعدها لعبقريته في الرياضيات التي يحمل دكتوراه في علومها منذ أكثر من 50 عامًا، فإن الصندوق الذي أنشأه يُبقي معادلاته وحساباته التي يبني عليها قراراته الاستثمارية سرية، ويوظف علماء الرياضيات تلك المعادلات بالأساس لتلافي تأثير المشاعر في تقييم الشركات والفرص الاستثمارية.
“خدعة” بسيطة ولكن فعالة
ويناقض “سيمونز” هنا أكثر من 85% من المستثمرين الذين تشكل “مشاعرهم” أداة سلبية للتأثير على قراراتهم الاستثمارية، كما أنه -وفقًا لدراسة لجامعة “ستانفورد”- فإن 36% من المتعاملين بالسوق يشترون ويبيعون الأسهم بالاعتماد الكلي على ما “يشعرون به”، ووفقًا لما “يسمعون” دون أن يعملوا بأنفسهم مطلقًا سواء في التحليل الفني أو الأساسي، هذا فضلًا عن عدم إلمام الكثير ممن يستخدمون نوعي التحليل بأساسيات كل منهما.
وقد لا يملك كافة المتداولين عقلية حسابية استثنائية تقودهم لعمل خوارزميات تمكنهم من إدارة استثمارات تقدر بـ55 مليار دولار، ولكن بوسعهم تنحية تأثير نظرية الاحتمالية عليهم، وذلك بمنح العقل والتحليل المزيد من المساحة على حساب المخاوف.
وهنا يمكننا أن نتذكر ما قاله “راي داليو” مؤسس شركة الاستثمارات”بريدج ووتر أسوشيتس” التي تعد واحدة من أهم خمس شركات خاصة في الولايات المتحدة برأسمال يتخطى 15 مليار دولار، حيث يشير إلى أنه بدأ عمله في الأسواق قبل 50 عامًا وتكبد خسائر ملموسة.
ويشير “داليو” إلى أن السبب الرئيسي وراء ذلك في أول عامين للاستثمار في أسواق المال كانت حالة “الحزن والهم” التي تصيبه عند الخسارة، وكانت كثيرًا ما تدفعه للرفض النفسي لها، وبالتالي عدم التحرك أو التحرك المتعجل، وفي الحالتين يتكبد الخسائر.
ويضيف “داليو” أن “الخدعة” التي أفلحت معه بعد ذلك هي التظاهر كما لو كان يقيم استثمارات شخص آخر وينصحه، وأصبح يقوم بذلك باستمرار لتجنب الانفعالات الضارة باستثماراته، ونتيجة لتوافر أسس المعرفة بالاقتصاد وتقييم الشركات أفلحت هذه الخدعة معه، وتمكن من تكوين إحدى أكبر الإمبراطريات الاستثمارية الخاصة.
اكتشاف المزيد من موقع نايفكو
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.