عندما يبدأ المستثمر في البحث عن سهم للاستثمار فيه، فإنه كثيرًا ما يبحث عن مؤشرات الاقتصاد الكلية في هذا القطاع، التكنولوجيا مثلا، قبل أن يغوص أكثر ليبحث عن مؤشرات الشركة التي يبتغي الاستثمار فيها وبياناتها المالية، ولتكن “ميتا” مثلا، ليتخذ قراره بضخ أمواله في الشركة من عدمه، وذلك بعد تحليل أكثر من شركة وقطاع بنفس الطريقة التي تعتمد على قراءة البيانات وتحليلها.
لكن منذ عدة سنوات انتشر الحديث عن تأثير البيانات البديلة، أو الإضافية أو غير التقليدية في بعض التعريفات، على الاستثمار في ظل تعقد البيئة الاستثمارية بشدة وتعدد العوامل المؤثرة على قيمة الشركات.
رضا المستهلك مثال
الشاهد أن رضا المستهلكين من بين العلامات البارزة للغاية التي يمكن اعتبارها بمثابة بيانات غير تقليدية يمكن للمستثمرين الاعتماد عليها من أجل تقييم الشركات، حيث إن هذا العنصر المعنوي يشكل مع اسم الشهرة (والأخير عنصر تقليدي في التقييم) أحد أهم العوامل التي تنبني عليها قيمة الشركة ككل وتنعكس بالتالي على قيمة أسهمها.
وتشير دراسة لجمعية التسويق الأمريكية إلى ارتباط وثيق في حالة 92% من الشركات بين مستوى رضا العملاء وبين العوائد، حيث ينشأ بينهما ارتباط طردي واضح (يزيدان معاً ويتراجعان معًا)، وفي النسبة الباقية يكون الأمر غير قائم في شركات الاحتكار مثل المياه والكهرباء وغير ذلك، والتي يختفي فيها هذا الارتباط.
ومع ارتباط العوائد برضا العميل فإن قيمة الشركة ككل، وبالتالي قيمة أسهمها ترتبط برضا العميل، وبالطبع يتفاوت التأثير وفقًا لطبيعة الشركة، ففي خدمات مباشرة مثل البيع بالتجزئة أو المطاعم فإن رضا العملاء يزداد أهمية عن شركات أخرى للتعامل مع عدد كبير من العملاء وتأثر “السمعة التجارية” سريعا خلافا لمجالات أخرى مثل المواد الخام أو المحركات.
وفي هذا الصدد فإن صناديق التحوط الأمريكية تضع بند رضا العملاء بين العناصر التي تقوم بدراستها باستمرار قبل اتخاذ قرار الاستثمار، وأن أكثر من 90% من الأسهم التي يقررون الاستثمار بها يكون لديها مؤشرات رضا مستهلك عالية، وأنه في بعض الحالات يرفض الاستثمار في الشركة فقط بسبب معدل متدن لرضا المستهلكين، حتى وإن كانت بقية المؤشرات موجبة.
“أبل” مثالًا
وفي هذا الإطار، يبرر الكثير من المستثمرين الأمريكيين ضخ أموالهم في شركة “أبل”، كونها تتمتع بمعدل رضا “نادر” بين عملائها، فمنتجات الشركة في 2023 على سبيل المثال حظيت برضا لم يقل عن 77% ووصل إلى 82%، و”الانتماء” بين مستخدمي العلامة التجارية، لا سيما “الآيفون” يتخطى 90% في كافة الدراسات التي أجريت على الشركة منذ عام 2016.
ويعطي هذا الأمر طمأنينة للمستثمر من أكثر من جهة، أولها هو أنه يمكن للشركة أن تواجه تقلبات السوق وصدماته أكثر من غيرها، وأنها ليست بحاجة لإنفاق إعلاني كبير عن منتجاتها، وأخيرًا فإن حصتها السوقية قابلة للنمو بالفعل أكثر منها للتراجع في ظل وجود معدل “ولاء” عال للغاية مع سوق تتسع باستمرار.
وعلى الرغم من أن الربط المباشر بين رضا المستهلك والاستثمار في الأسهم يعد مستحدثا نسبيًا بشكل علمي، فإن آخرين قاموا به قديمًا بالحدس ومنهم “بيتر لونش” الذي ضخ استثمارات “فيديلتي” في مقهى “دنكن دونتس” قبل عقود بناء على إعجابه بالمستوى الذي يقدمه المقهى الذي يبيع القهوة والحلويات سويا، وفقط لأنه يحرص على الإبقاء على القهوة ساخنة باستمرار وعلى المعجنات طازجة في هذا الوقت.
البحث على الإنترنت
ومن ضمن الأشياء غير التقليدية التي يعمل المستثمرون على تحليلها هي “بيانات البحث” أو بيانات الإنترنت، ويقصد بها الكلمات المرتبطة بالبحث عن شركة بعينها وما إذا كانت إيجابية أم سلبية، وتأثير ذلك على سعر سهم الشركة وإقبال المستثمرين الآخرين عليها.
وعلى سبيل المثال، فإن أسهم شركة علي بابا انخفضت بأكثر من 50% خلال السنوات الأخيرة نتيجة البحث السلبي المرتبط بالشركة، ومن ذلك مشاكل مؤسسها “جاك ما” مع السلطات في بلاده، فضلا عن البحث المستمر عن احتمالات تقسيم الشركة وخسارتها لعملائها.
يأتي ذلك على الرغم من أن الشركة لم تشهد تراجعا في إيراداتها إلا في 5 من إجمالي 36 ربعًا ماليا في السنوات التسع الأخيرة (منها 4 متتالية بسبب مشاكل الشركة وتبعات أزمة كورونا) بما يؤكد أن التأثير الكبير لـ”البحث السلبي” عن الشركة، حيث توقف البحث عن نمو الشركة لحساب البحث عن أزماتها.
وارتباطًا بهذا العنصر، تعمل البيانات غير التقليدية على تحليل تأثير “التشاؤم” حول الصور والنصوص المنشورة حول شركة بعينها في الصحف والمواقع، وتضع لها الخوارزميات وزنًا نسبيًا 15% في توجيه الموارد والأصول، أي أنها قد تكون عنصرًا مؤثرًا على قرار الاستثمار في شركة من عدمه.
المسح الجغرافي والاحتباس الحراري
ومن ضمن العوامل التي تهتم بها الدراسات الاستثمارية الحديثة أيضا عمل مسح جغرافي للمناطق المختلفة تستخدم فيها صور الأقمار الصناعية، ومن بينها مثلا مساهمة ذلك في تراجع أسهم سلسلة “وول مارت” لمتاجر التجزئة بين أبريل 2022 ومايو 2022 بأكثر من 15%.
فعلى الرغم من أن السبب الرئيسي وراء التراجع كان إعلان سلسلة التجزئة الشهيرة خفضها لتوقعات بقية عام 2022، فإن الدراسات التي أجرتها صناديق التحوط دفعتها للانسحاب قبل “اكتشاف” الأسواق ذلك، في ظل تقدير الدراسات التي أجرتها تلك الصناديق أن المساحات المتاحة للسيارات بجوار المتاجر وحجم بعض المتاجر في ظل تغير عادات التسوق بعد فيروس كورونا ستؤثر على المبيعات والربحية للسلسلة الشهيرة.
ومن بين البيانات البديلة أيضا التعامل مع بيانات الاحتباس الحراري على أنها عنصر هام في الاستثمار في الأسواق، ومن ذلك تراجع تدفق أموال صناديق الاستثمار الكبيرة إلى أسواق الدول الأكثر عرضة لتهديدات الاحتباس الحراري بنسبة تفوق 40% خلال الأعوام الخمسة الماضية.
وفي المقابل فإن هناك زيادة واضحة على الاستثمار في أسهم الشركات الزراعية في الولايات المتحدة على سبيل المثال، وذلك على الرغم من التذبذب الكبير في أسعار المنتجات الزراعية خلال السنوات الماضية إلا أن أسعار أسهم تلك الشركات ارتفعت بأكثر من 50% في المتوسط خلال الأعوام الخمسة الأخيرة بفعل عناصر متعددة من بينها ما توفره البيانات البديلة حول تأثير الاحتباس الحراري على المحاصيل الزراعية وأثر ذلك في ارتفاع سعرها مستقبلًا.
الثقة في حملة الأسهم
وتعد “الثقة العامة” في الأسلوب التصويتي لحملة أسهم شركة بعينها، وليس الثقة في الإدارة التي تعد عنصرًا تقليديا وأساسيا، من العناصر الهامة أيضا في البيانات البديلة للاستثمار في الأسهم، حيث إن وجود تناغم بين حملة الأسهم ومرور فترات زمنية طويلة لاحتفاظ بعضهم بالأسهم يدعم قدرة الشركة على اتخاذ القرارات بشكل أفضل.
والشاهد أن البيانات البديلة تشمل أنماط الاستهلاك في بلد ما، وطبيعة الديون وقدرات الوفاء بها، والتجمعات الجغرافية، وأساليب البحث الإلكتروني، وحتى طبيعة التحالفات السياسية والاقتصادية وإمكانية تطورها، وتدفق المواد الخام وسهولة الوصول إليها، وكافة هذه العناصر مع ما سبق تدخل في إطار خوارزميات معقدة لتعطي أرقامًا مرجحة بالاستثمار من عدمه.
وعلى الرغم من أن هذا الاعتماد على هذه “المشاهدات” التي توصف بـ”النوعية” (qualitative) نظرًا لأنها تعتمد على ظواهر يصعب صياغتها في أرقام ثابتة مثل البيانات المالية التقليدية، يعد أمراً قديماً (لكن دون أساس علمي وتنظيري صحيح) إلا أن التوسع في استخدامها مؤخرًا زاد من نسبة أرباح صناديق التحوط بنسبة 14% على الأقل خلال السنوات الثلاث الأخيرة، لا سيما في ظل تمتعها بدعم برامج ذكاء اصطناعي قادرة على عمل متوسطات مرجحة أقرب للدقة.
هل يعني ذلك أن المستثمر الفردي أو الصغير غير قادر على استغلال تلك البيانات؟ بالطبع يمكنه ذلك، وإن كان بدرجة أقل، وذلك عبر تحديد العناصر ذات الأهمية، مثل المواقع وساحات الانتظار للمتاجر مثلا، والبحث عنها قبل الاستثمار، بما يتيح تعزيز فرصه في الربح في سوق الأسهم.
اكتشاف المزيد من موقع نايفكو
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.