كيف يقود كبرياء المتداول وعناده إلى الخسارة


“هناك نوعان من الكبرياء، أحدهما جيد والآخر سيئ، الأول يمثل احترامنا لذواتنا وكرامتنا، والثاني هو خطيئة الكبرياء المميتة التي تفوح منها رائحة الغرور والغطرسة” هذا ما يقوله “جون ماكسويل” الكاتب الأمريكي المتخصص في شؤون الإدارة.

وكما يقال بالعربية فإن بعض الأمور تفصل بينها “شعرة”، ومن أهم ما يجب على المستثمر بصفة خاصة، والإنسان بصفة عامة، أن يدركه هو الحد الفاصل بين الثقة بالنفس من جهة والكبرياء المؤذي أو الاعتداد الزائد بالرأي من جهة أخرى، ففي الأولى نجاح وتطور، وفي الثانية خسارة مؤكدة.

نتائج مذهلة لصندوق تحوط

ولعل أحد أبرز الأمثلة التي يمكن ضربها في مسألة الاعتداد الزائد، أو الكبرياء والعناد في أسواق المال هو ما حدث لصندوق التحوط “لونج تيرم كابيتال مانجمنت” والذي أدى عناد وكبرياء بعض المديرين فيه إلى أزمة أطاحت باستثمارات الصندوق.

بلغت الأصول التي يديرها الصندوق عام 1998 حوالي 129 مليار دولار، واعتمد على مقاربة غريبة في الاستثمار، حيث يدفع المستثمرون 10 ملايين دولار للولوج إلى الصندوق، دون السماح لهم بسحب أموالهم لمدة ثلاث سنوات، أو حتى السؤال عن أنواع الاستثمارات التي يجريها صندوق التحوط.

وعلى الرغم من هذه القيود، استمر الكثير من المتداولين في الاستثمار معهم بفعل العوائد التي وصفت حينها بـ”المذهلة” إذ بلغت 40% في عامي 1995 و1996، إلا أن طريقة استثمار الصندوق أثارت تساؤلات في ظل غياب تام للمتابعة من جانب مالكي الأصول التي يديرها.

وحصلت الإدارة على 27% من الأرباح بعد خصم المصاريف كأموال تحوط للخسارات المستقبلية، ولذلك نجحت الشركة في توزيع عائد بنسبة 17.1% في عام 1997 والذي شهد معاناتها من أزمة عملات النمور الآسيوية، حيث كانت استثمارات الشركة في الأسواق الآسيوية كبيرة للغاية.

صدمات متتالية

والشاهد أن الصدمات التي تلقتها الشركة لم تكن في السوق الآسيوي فحسب، لكن في السوق الروسي أيضا، ففي السابع عشر من أغسطس 1998، أعلنت روسيا خفض قيمة عملتها، وعجزها عن سداد مستحقات سنداتها، وعلى الرغم من أن حساب الشركة يتضمن مخاطر مثل تلك إلا أن اقتران تلك الأزمة مع أزمة الأسواق الآسيوية جعل تدارك الأمر صعبًا للغاية.

ونتيجة لذلك، بدأت استثمارات الصندوق التي تحقق له الأرباح الكبيرة في الانهيار، مع تراجع قيمة العملات الآسيوية والروسية وعجز موسكو عن سداد ديونها، وبحلول نهاية أغسطس 1998، خسر 50% من قيمة استثماراته الرأسمالية.

وبما أن كثيرا من البنوك وصناديق التقاعد استثمرت في صندوق التحوط، فقد هددت مشاكله بدفع معظمها إلى حافة الإفلاس، ولذلك كان بنك “بير شتيرنز” أول من طالب صندوق التحوط برد استثماراته البالغة 500 مليون دولار لأنه خشي أن يخسرها مع تراجع القيمة السوقية الحاد لأصول “لونج تيرم مانجمنت”، وتوالت المطالبات بشكل سريع.

وبعد ذلك وبحلول سبتمبر 1998، أدت صفقاته المحفوفة بالمخاطر في السوق الآسيوية إلى اقترابه من الإفلاس، واضطر البنك الفيدرالي الأمريكي للتدخل لإنقاذ الصندوق الذي وصف حينها بأنه “أكبر من أن يترك ليفشل”، وهي جملة تستخدم لتوضيح النتائج الكارثية لإفلاس شركة أو صندوق أو حتى مستثمر، وذلك في ظل إدارته لأصول تقترب من 129 مليار دولار متداخلة في الكثير من أركان النظام المصرفي.

كبرياء يؤدي للخسارة

ويبدو التساؤل هنا عن دور “الكبرياء” في سقوط صندوق التحوط، ويرجع هذا إلى أن مؤسس الصندوق “جون ماريويزر” ومعه شريكاه، رفضوا باستمرار نصائح أكثر من 90% من محللي المحافظ الاستثمارية لديهم بأن استمرارهم في ضخ الأموال في استثمارات خارجية عالية المخاطرة يجعلهم عرضة ليس فقط لتغيرات أسواق الأسهم المتقلبة في الدول النامية، ولكن أيضًا لتقلبات سعر الصرف.

وخلال اجتماع بين المؤسسين والمسؤولين في الشركة في بداية عام 1998 ومع اتضاح معالم الأزمة التي يمر بها الصندوق، جدد المؤسسون رفضهم لكافة الطروحات التي دعتهم لتغيير سريع في هيكل الاستثمارات، وأكدوا أنهم “أسسوا الشركة بهذا الشكل، وسيستمرون في إدارتها بهذا الشكل”.

ويذهب البعض إلى أن “كبرياء” هؤلاء المؤسسين لم يكلف الاقتصاد الأمريكي 4.2 مليار دولار قيمة خطة الإنقاذ التي نفذها 14 بنكًا أمريكيًا برعاية حكومية فقط، ولكنه ساهم بشكل غير مباشر في الأزمة المالية العالمية عام 2008، حيث رأت الكيانات الاقتصادية الكبيرة أن الحكومة لا تستطيع ترك المؤسسات الكبيرة للغاية تنهار، فكان هذا دافعاً لهم لزيادة حجم مؤسساتهم على حساب فاعليتها وكفاءتها وربما استقرارها.

نيك ليسون

ويشير “تيموثي ماكارثي” مؤلف كتاب “المستثمر الآمن” إلى أن نسبة ضئيلة من المتداولين في سوق الأسهم لديها “فضيلة تقدير النصائح”، حيث يتعامل نسبة ليست بالصغيرة في السوق على أن “الجميع أعداؤه” وبالتالي يحاول الاعتماد على علمه أو حظه أو حدسه وحده، وإذا حقق المكاسب مرة أو عدة مرات لا سيما في عمليات تداوله الأولى فغالبًا ما يكتسب كبرياء وغرورا يؤذيانه.

ويعتقد “ماكارثي” أن “الكبرياء” -بمعناه السيئ- يؤذي أكثر من 50% من المستثمرين في مرحلة أو أخرى، لا سيما هؤلاء الذين ينظرون إلى السوق بوصفها كيانًا واحدًا وليست مكانًا يتفاعل فيه الكثير من القوى والكيانات.

ويبرز اسم “نيك ليسون” دائما كأحد أهم من قادهم الكبرياء إلى الخسارة، بل والسجن في حالة “ليسون”، ففي أبريل 1992، قرر بنك “بارينجز”، الذي كان أحد أعرق البنوك الإنجليزية، فتح مكتب للعقود الآجلة والخيارات في سنغافورة، وتم تعيين “ليسون” مسؤولًا عنه.

منذ عام 1992، قام “ليسون” بصفقات مضاربة غير مصرح بها والتي حققت في البداية أرباحًا كبيرة لـ”بارينجز” بلغت 10 ملايين جنيه إسترليني، وهو ما يمثل 10% من أرباح بارينجز السنوية في هذا العام، ولهذا حصل “ليسون” على مكافأة قدرها 130 ألف جنيه إسترليني على راتبه البالغ 50 ألف جنيه إسترليني لذلك العام.

وأخطأ البنك هنا بمكافأة هذا السلوك، فاستمر “ليسون” بالمضاربات في سوق الأسهم في سنغافورة، وبدأ يحقق الخسائر، ويخفيها عن الإدارة، حتى لا يتعرض للمساءلة نظرًا لأنه كان يرى أن طريقته هي الصحيحة وأن الإدارة ستتفهم “حيثيات” خسائره وتغفرها فور انقلابها لأرباح.

بحلول نهاية عام 1992، تجاوزت خسائر معاملات “ليسون” مليوني جنيه إسترليني، وزادت إلى 23 مليون جنيه إسترليني في أواخر عام 1993، وتضخم هذا المبلغ إلى 208 ملايين جنيه إسترليني بحلول نهاية عام 1994.

وكان “ليسون” يتبع استراتيجية “المضاعفة” وهي أنه في كل مرة يخسر فيها المال، يراهن على ضعف المبلغ الذي فقده لاسترداد المبلغ، وذلك لأن هذا الأمر أتى أكله معه، بما في ذلك مرة واحدة في عام 1993 حيث تمكن من تغطية رصيد سلبي قدره 6 ملايين جنيه إسترليني بعملية مضاربة على الخيارات المستقبلية.

سلسلة من القرارات الكارثية

وكان على ليسون أن يحافظ على سمعته باعتباره عبقريًا في التداول وسرعان ما وجد نفسه يخفي خسائره مرة أخرى، غير أنه في يناير 1995، عندما وضع ليسون صفقة بيع على المكشوف في بورصتي سنغافورة وطوكيو، مراهنًا بشكل أساسي على أن سوق الأسهم اليابانية لن تتحرك بشكل كبير، ضرب زلزال هانشين في وقت مبكر من صباح يوم السابع عشر من يناير، مما أدى إلى انخفاض الأسواق الآسيوية ومعها مراكز مضاربة “ليسون”.

 وحاول “ليسون” تعويض خسائره عن طريق إجراء سلسلة من الصفقات الجديدة عالية الخطورة مراهنًا هذه المرة على أن مؤشر “نيكي” سوف يحقق انتعاشًا سريعًا، غير أن رهاناته فشلت هذه المرة ليصل حجم الخسائر إلى 287 مليون جنيه إسترليني والتي تسببت في وقت لاحق في إفلاس البنك.

وترك ليسون رسالة كتب فيها “أنا آسف” وهرب من سنغافورة في الثالث والعشرين من فبراير، وبعد فراره إلى ماليزيا وتايلاند وأخيرا ألمانيا، ألقي القبض على ليسون في فرانكفورت وتم تسليمه إلى سنغافورة في العشرين من  نوفمبر 1995، ونشر مذكراته بعنوان “المتداول المارق” أو “Rogue Trader” والتي توضح بالتفصيل أفعاله، والتي أشار فيها إلى أن إعجابه الزائد بعقله ورفضه الاعتراف بالخطأ كان المقصلة التي أودت به للفشل والسجن.

ويقول “بوب لانج” أحد كبار المستشارين في عقود الخيارات في السوق الأمريكي “يخسر المستثمرون في سوق الأسهم بسبب الخوف والهلع وبسبب الطمع، ولكن أسوأ أنواع الخسائر تكون بسبب الكبرياء، لأنها غالبا ما تكون خسارة متصلة ويصعب أن يتخلص المستثمر مما يسببها وهو الكبرياء الخادع”.


اكتشاف المزيد من موقع نايفكو

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من موقع نايفكو

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading