قبل أكثر من 120 عامًا، أحضر الرائد الروسي في علم النفس “إيفان بافلوف” عددًا من الكلاب وكلما وضع لهم طعامًا قام بعمل صوت قبلها ببضع دقائق، واختلف الصوت في التجارب لكنه في معظمها كان صوت جرس، وذلك في مسعاه لدراسة ارتباط الفعل (المثير) بالاستجابة (رد الفعل).
ولاحظ “بافلوف” إنه بعد مرور أسابيع من الاستمرار في قرع الجرس ثم تقديم الطعام للكلاب، أصبح لعاب الأخيرة يسيل لمجرد سماع صوت الجرس دون وجود الطعام نفسه، بما دعاه لصك تعبير “الاستجابة الشرطية”، والذي يقصد به أن “مثير” (فعل أو حركة مثلا) معين يرتبط بآخر بشكل وثيق بما يحفز رد فعل بعينه.
الارتباط الشرطي الخاطئ
وتوسعت نظرية “بافلوف” ليتم تطبيقها في العديد من الدراسات النفسية على الأطفال والناضجين لاحقًا، ولكن في النهاية تأكدت نظرية الارتباط الشرطي، ثم الارتباط العكسي لاحقًا وغيرهم.
والشاهد هنا أنه مع التوسع في الدراسات اتضح أن 60% من البشر لديهم ارتباطات شرطية “غير حقيقية”، ومن ذلك مثلًا أن النسبة نفسها في سوق الأسهم تربط بين “الحظ” وبين تحقيق الأرباح في سوق الأسهم وتضعه بمثابة “المثير” الرئيسي الذي يتحقق بناء عليه النتيجة الأخرى وهي الأرباح.
وكشفت دراسة أن أكثر من 80% من المتعاملين في السوق، يربطون بين الربحية و”عامل واحد” فقط، سواء كان هذا الحظ، أو نسب النمو أو الرواج أو الإنفاق الاستهلاكي أو شكل المنحنى في السوق أو قوائم الشركة المالية أو حتى نصيحة من مُحلل في السوق.
ولاشك أن هذا يتناقض بشدة مع “عقلية الفائز” في السوق، حيث يقوم المُحلل بتقييم 12 عاملًا في المتوسط (يختلفون باختلاف الشركة) عند تقييم سعر سهم شركة، ولعل أبرزهم بيانات الشركة، وبيانات القطاع التي تعمل به، والحالة العامة للاقتصاد، و”معنويات السوق” ولا يبنون قرارهم على عامل أو “مثير” واحد.
“التجارب الشخصية”
ومن بين العوامل التي تؤثر على عقلية الخاسرين في السوق هو “التجارب الشخصية السابقة”، فالشاهد أن 70% من المتعاملين في الأسهم مثلا لا يعودون إلى سهم اشتروه وخسروا فيه سابقًا ويتجنب أكثر من 50% القطاع بأكمله، بينما يكرر 80% من المستثمرين مشترياتهم من الأسهم التي سبق وربحوا فيها، وهو عكس العقلية الفائزة في سوق الأسهم التي تقوم بالتحليل بعيدًا عن “الفأل” و”الشؤم”.
وفي هذا الإطار يمكن القول إن الاعتماد على التجربة الشخصية على حساب الدراسة والقراءة والتحليل يشبه أخذ رأي شخص واحد والاعتماد عليه لتحليل موقف مجتمع به عشرات آلاف إن لم يكن مئات آلاف الأشخاص، فلا يمكن أن يكون هذ التحليل دقيقًا بحال.
ويمكن الاستدلال على عقلية الفائزين في السوق من خلال التحول الذي طرأ على أحد أهم المستثمرين في تاريخ أسواق الأسهم (والأسواق عمومًا) وهو “ريتشارد دينيس”، الذي عُرف بنجاحه الاستثنائي في تحقيق ثروة تخطت 200 مليون دولار خلال 10 سنوات وذلك على الرغم من بدئه التداول بمبلغ لم يتجاوز 1600 دولار.
ويقول “دينيس” عن اختلافه عن أقرانه كان في “العقلية” في أكثر من ناحية، الأول هو البحث عن الاستثمار الأكثر ربحية على الإطلاق وليس عن “استثمار جيد” فحسب، بما يتضمنه ذلك من قضاء أوقات طويلة للغاية في الدراسة والتحليل قبل اتخاذ القرار الاستثماري، فضلا عن التعامل الجاد مع الاستثمار في الأسهم على أنه “وظيفة وعمل” وليس مجرد محاولة لزيادة الثروة.
وعلى الرغم من ذلك فقد تكبد “دينيس” خسائر باهظة في هبوط سوق الأسهم عام 1987، وفي هبوطه مع فقاعة دوت كوم في عام 2000، وذلك بسبب ما أشار إليه “دينيس” بأنه “التوقف عن التطور”، حيث ارتاح لتحليلاته السابقة دون أن يعمل على تحديثها وإعادة دراسة الأسس التي ارتكن إليها في تحقيق نجاحاته السابقة.
ولعل هذا “التراخي” هو السبب الذي يجعل بعض “الخبراء” يتكبدون الخسائر الفادحة (وليست العادية التي يتكبدها الجميع) بعد سنوات طويلة من العمل في سوق الأسهم.
تراجع التعلم لحساب “التقليد”
وتشير الموسوعة الأمريكية لعلم النفس إلى أن وسائل التواصل ومعها محركات البحث أدت لتراجع حاد في أسلوب التعلم التقليدي القائم على المشافهة (أي الحديث المباشر بين شخصين) أو المأسسة (والقائم على المراجع العلمية التفصيلية) لحساب الحصول على الاستنتاج النهائي دون المرور بالمراحل الوسيطة الحيوية من أجل التوصل لهذا الاستنتاج.
وفي هذا الإطار وبشكل عام انخفضت نسبة من يحصلون على المعلومات بالطريقة التقليدية القائمة على التعلم الرأسي (أي معرفة مسألة بشكل شبه كامل بما يحيطها) بنسبة 89% خلال القرن الماضي، وأكثر من نصف هذه النسبة خلال العقدين الأخيرين، ولا شك أن أسواق الأسهم ليست بمنأى عن تأثير “التدهور المعرفي” هذا.
وفي هذا الإطار، يرى “بول ترودر جونز” والذي أسس صندوق تحوط يحمل اسمه “ترودر” يدير رأسمال يتخطى 12 مليار دولار حاليًا، يقول إنه وفقًا لما رأى في سوق الأسهم فإن أكثر من 90% من المتعاملين يفتقدون مبدئيًا إلى المعارف اللازمة من أجل التواجد في السوق.
ويشير “ترودر” إلى أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الغالبية العظمى من صناديق التحوط يعكس ليس فقط رغبة في توفير الأموال بالاعتماد على الآلة بدلا من البشر، ولكن في محدودية أعداد المحللين الذي يتمتعون بالعلم الكافي من أجل الالتحاق بصفوف هذه الشركات والقيام بعمل حيوي في تقييم الأصول.
“ثقة كاذبة”
وتشير دراسة في هذا الصدد إلى أن “الاعتقاد” غير الحقيقي لدى المستثمرين بأن لديهم ما يلزم للتواجد في السوق يتزايد ولا يتراجع، حيث كانت نسبة المتداولين ممن يعلمون أنه تعوزهم المعارف الرئيسية للتداول في سوق الأسهم 40% في بداية الألفية الحالية.
أما في بداية العام الحالي فلم تزد نسبة من يدركون افتقارهم لمعارف الاقتصاد والسوق الحقيقية عن 17%، وهذا بسبب تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على منطق المعرفة التقليدي حيث أصبح من الشائع الاكتفاء بالبحث السريع عن “الاستنتاجات” (وليس المعلومات) على حساب التعلم.
وفي هذا الإطار تشير دراسة لجامعة “كامبريدج” إلى الاستثمار كأحد أهم المجالات التي تأثرت بالسلب بظاهرة “سيولة المعلومات”، والمقصود بها سهولة الحصول على المعلومات من جهة وصعوبة التحقق منها في نفس الوقت، حيث أصبح 71% من مستخدمي “فيسبوك” مثلا (وهم في حدود 3 مليارات) يعتبرون الموقع بمثابة مصدر للمعلومات والمعرفة، وما ينطبق على “فيسبوك” ينطبق على بقية منصات التواصل الاجتماعي بدرجات متفاوتة.
ويغفل العديد من الباحثين عن المعلومات في سوق الأسهم أو غيره أن محركات البحث لا تظهر الأفضل أو الأعلى دقة بالضرورة بل تقوم بعرض التقارير وفقًا لالتزام كاتبها بمجموعة من الخوارزميات وأساليب الكتابة وتصميم المواقع الداخلي بما يجعل المعلومة الأولى التي تظهر ليست بالضرورة الصحيحة ويستلزم الأمر بذل جهد أكبر في التقصي والمعرفة والوصول لمصادر المعلومات الأولية وعدم الاكتفاء بالنتيجة النهائية.
وبشكل عام فإن عقلية الفائزين في سوق الأسهم تتجنب كل ما سبق من “فأل وشؤم” وارتباط شرطي واعتقاد زائف بالمعرفة وعلم سطحي وليس مؤسساً بشكل صحيح ويبذلون الجهد في المقارنة والبحث عن الأفضل وليس عن ما هو “جيد” فحسب.
اكتشاف المزيد من موقع نايفكو
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.