بدأت جماعة الإخوان المسلمين كجمعية «دينية» دعوية ذات طابع خيرى. لكنها سرعان ما كشفت عن غرضها «السياسى» تحت دعوى الإيمان بشمولية الإسلام ومضمونه الاجتماعى الصريح. وبامتداد العقد الرابع ومطلع الخامس من القرن الماضى، انغمست الجماعة كليًا فى العملية السياسية شبه الليبرالية الجارية فى مصر؛ فمارست عمليات الشحن المعتادة لكسب الجمهور، ودخلت فى تحالفات وخصومات علنية أو مضمرة مع القوى السياسية الفاعلة التى تضم الأحزاب والقصر الملكى، وسلطة الاحتلال البريطانى.
رغم تكوينها الدينى الأصولى، فرضت الجماعة حضورها داخل نظام دستورى مدنى قائم على التعددية السياسية. وهى واقعة تحتاج إلى تفسير مزدوج؛ من جهة النظام المدنى العلمانى بطبيعته والذى لا يفترض قبوله لتشكيلات سياسية دينية، ومن جهة الجماعة – الثيوقراطية بطبيعتها- والتى أعلنت رفضها لفكرة التعددية الحزبية.
بالنسبة إلى النظام الدستورى المدنى، يمكن الحديث عن نظام لا يزال يتشكل، فى محيط ثقافى محافظ دينيًا. أعنى لم يتحول كليًا إلى العلمانية، فى ظل مستوى التطور الاقتصادى والاجتماعى العام. وفى هذا السياق يمكن فهم الحضور السياسى لجماعة تقوم على أسس دينية، خصوصًا وأنها «تعلن» عن قبولها بالإطار العام للنظام الدستورى.
لكن الجانب الذى يستحق الانتباه فى السياق ذاته يتعلق بحضور الاحتلال البريطانى، أعنى موقعه من النظام الحاكم ، والدور الذى لعبه فى تمرير الجماعة وتثبيتها بغرض التوظيف السياسى. (ناقشت سابقًا تفاصيل هذا الدور استنادًا إلى وثائق الخارجية البريطانية، التى تشير إلى تعاون سلطات الاحتلال مع الحكومات المصرية – الوفدية خصوصًا- لتقديم مساعدات إدارية ومالية، مباشرة وغير مباشرة، لإسناد الجماعة ضمن عدد من الجمعيات والمؤسسات الدينية، بغرض استخدامها فى امتصاص موجات المد اليسارى و « الوطنى» الموجهة ضد وجود الاحتلال. وهى علاقة لاتزال تشتغل عليها السياسية البريطانى حتى الآن، بعد تطوير أشكالها وآلياتها، فضلًا عن أغراضها التى صارت تشمل احتواء الموجات الأكثر تطرفًا من الإسلام السياسى داخل المنطقة وخارجها).
والمعنى الواضح هو أن حضور «جمعية» دينية لم يكن مفروضَا ضد إرادة النظام السياسى، بل تم استحضارها قصدًا إلى الساحة بمعرفة قوى فاعلة فى النظام للقيام بأدوار محسوبة، فى المرحلة المبكرة على الأقل. (لا أقصد بذلك أن الاحتلال البريطانى هو من خلق الأصولية السياسية، فهذه الفكرة كامنة فى صلب الإسلام التاريخى الفقهى. لكن الاحتلال ساعد على تنشيط الفكرة واخراجها واقعيًا فى هذه الصيغة بالذات. كان من الطبيعى ظهور صيغة أصولية ما كرد فعل من النظام التراثى على المثير الحداثى، الذى فرض وجوده بامتداد القرن التاسع عشر، وكانت جماعة الإخوان تطويرًا مفهومًا لهذه الصيغة فى بدايات القرن العشرين».
أما بالنسبة إلى الجماعة (لماذا تظل رغم تكوينها الدينى على مقربة من الدولة المدنية ذات التكوين العلمانى؟)، فيلزم الوقوف على بنائها الثقافى الهجين، الذى ينزع إلى مصالحة نسبية مع الحداثة، ويسمح بانفتاح جزئى على النظام الدستورى المدنى. وينعكس ذلك على الخصائص البراجماتية للجماعة، التى ظلت تناور – حسب الحاجة- بإظهار جانبها الدينى أو السياسى، تبعًا لموازين القوى المتغيرة بينها وبين الأنظمة الحاكمة.
-2-
فى غضون المرحلة الليبرالية، حيث كانت الظروف مواتية. أظهرت الجماعة وجهها السياسى دون إخفاء الوجه الدينى. ورغم رفضها الحاسم للنظام الحزبى بوصفه نظامًا تقسيميًا يخرب الوحدة المفترضة للأمة، استغلت صلاحيات العمل السياسى التى يوفرها النظام. لكنها ظلت تجمع بين هذه الصلاحيات وآليات العمل السرى المنافية للدستور، فأنشأت تشكيلات نظامية ذات طابع عسكرى، ومارست عمليات اغتيال. أى أنها استفادت من أدوات العملية الحزبية مع التخفف من التزاماتها القانونية، وظلت تمزج على الدوام بين عقلية «الحزب الأيديولوجى» العصرية، وعقلية «الفرقة الدينية»، الموروثة من ثقافة «الخروج» على الحاكم فى المراحل الإسلامية المبكرة. ويفسر ذلك حالة الالتباس والغموض التى تسمح للمراقب الخارجى بقراءات متباينة للموقف الإخوانى، تتراوح بين تسكينه فى خانة الأصوليات «الدينية» الإرهابية، والحديث عن تيار «سياسى» خالص، يعكس التوجهات المحافظة والمعتدلة للبرجوازية المصرية.
فى أواخر هذه المرحلة، تنبهت الدولة لخطورة الحالة الإخوانية المناهضة جوهريًا للدستور المدنى، وبدأت حقبة الصدام والحظر، التى ستصل إلى ذروتها مع الدولة الناصرية ذات التوجه «الشمولى» العلمانى الصريح. دخلت الجماعة تحت القمع الناصرى فى حالة كمون داخلى لما يقرب من عقدين، قبل أن تستعيد حضورها بشكل مقيد، فى إطار صفقة سياسية مع نظام السادات، الذى كان يرمى إلى توظيفها فى احتواء التوجهات الناصرية واليسارية المتنامية. (مرة أخرى تحضر الجماعة أو تستحضر بمعرفة «الدولة» من خلال عملية توظيف. وهى العملية التى ستسهم هذه المرة فى تكريس الحالة الأصولية وتوسيع نطاقها فى المنطقة). لم تُمنح الجماعة صك اعتراف قانونى، لكنها ظلت تمارس نشاطاها المحسوب، تحت عين الدولة، كقوة واقع مشكوك فى ولائها للدستور.
لاحقًا، ومع التحولات العالمية الناجمة عن تدهور المعسكر الاشتراكى وتراجع الفكر الشمولى، ستدخل المنطقة فى حالة الانفتاح الليبرالى «النسبى» التى تسمح بدرجة من التعددية السياسية. وفى هذا السياق ستواجه الجماعة موقفًا مختلفًا على أرض الواقع، حيث سيتعين عليها الاختيار بين الانغماس فى لعبة التعددية الحزبية، أو العزل السياسى. وبحكم التكوين البراجماتي المهجن اختار الإخوان الانغماس فى اللعبة. وهنا ظهر « المشكل النظرى» المتمثل فى مخالفة المبدأ الإخوانى الذى وضعه حسن البنا نقلًا عن المدونة الفقهية، والذى ينكر «مشروعية» الاندماج فى النظام الحزبى. كما تعين على الجماعة مواجهة «المشكل العملى» المتمثل فى شكوك القوى المدنية حيال دعواها بالمشاركة السلمية وقبول تداول السلطة.
-3-
فى التأسيس النظرى لرفض النظام الحزبى، لم يقتصر البنا على نقد الأداء السياسى للأحزاب المصرية، بل وجه سهام النقد إلى فكرة التحزب فى ذاتها، استناداً إلى القرآن والسنة ومجمل الموروث الفقهى ومن هنا تأتى صعوبة تبرير التراجع عن الموقف النظرى. فى واقع الأمر يرجع الرفض إلى إنكار فكرة «التعددية» التى تعنى قبول « الآخر» الدينى والسياسى، من حيث هى فكرة منافية للإجماع والحصرية، أى لجوهر الديانة الكتابية, وهو لذلك رفض مبدئى واع يعكس التناقض الجوهرى بين النظام الإسلامى ونظام الدولة الحديثة، وليس مجرد اعتراض على شكل النظام الجزئى. ولهذا السبب توضع دعاوى الإخوان حول قبول الاندماج الحزبى فى خانة المناورة السياسية.
بوجه عام، تواجه الجماعات «الأيديولوجية» صعوبات متكررة فى تبرير التراجع عن «نصوص» المؤسس بسبب تغير الظروف التى يفرضها الواقع. لكن هذا المشكل يظهر بشكل أوضح لدى الجماعات «الدينية» بسبب البعد الإطلاقى (الإلهي) الذى تسبغه على دعواها السياسية. (وتمثل هذه النقطة واحدًا من أهم أسباب الانشقاق داخل التنظيمات الأيديولوجية، حيث تتعدد القراءات التأويلية للنصوص وللواقع على السواء. قارن بين الانشقاقات المتعددة داخل الحركة الشيوعية بفعل التفسيرات المتباينة لنصوص ماركس، وانشقاقات الحركة الإسلامية التى انبثقت فى مجملها عن جماعة الإخوان، والتى تسند نفسها مباشرة إلى نصوص إلهية مقدسة).
ومع ذلك، تظل جماعة الإخوان، بنزوعها البراجماتى، هى التنظيم الأكثر قدرة على التحول النظرى داخل إطار الحركة الإسلامية. لقد توسعت هذه الحركة بالتوالد من رحم الإخوان، وتشكلت ملامحها الأكثر سلفية وعنفًا على واقع الاعتراض على براجماتية الجماعة وانكفائها النسبى أمام الحداثة والدولة المدنية,
النزوع البراجماتى – الموروث من البنا نفسه- سيقود الجماعة إلى الخروج على التأصيل الشرعى الذى قدمه لرفض التعددية الحزبية. والدافع واضح هو ركوب الموجه الليبرالية الجديدة لاقتناص السلطة، فى ظل ظروف سياسية بدت مواتية أكثر من أى وقت مضى أشير هنا إلى التداعيات الداخلية والدولية التى ستؤدى إلى هوجة «الربيع العربى»: شارع سياسى منهك بسبب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المزمنة، وهامش حركة متاح للتوسع الأصولى على حساب القوى المدنية، مع إسناد خارجى غربى واسع.
يشرح القرضاوى- وهو شيخ أزهرى تقليدى يتقمص دور المنظر الإخوانى الجديد- هذا التحول النظرى « « ناديت منذ سنين طويلة بمشروعية تعدد الأحزاب فى الدولة الإسلامية.. وقلت كلمة تناقلها الدعاة والإعلاميون، وهى أن تعدد الأحزاب فى السياسة أشبه بتعدد المذاهب فى الفقه. فالأحزاب إنما هى مذاهب فى السياسية، والمذاهب إنما هى أحزاب فى الفقه. وكانت هذه الأفكار فى المجتمع الإخوانى – إلا قليلًا منهم- فى الأول الأمر مرفوضة، لما رسخ فى أذهانهم من قبل جراء التربية السياسية التى توارثوها عن إمامهم البنا رضى الله عنه. ولكن بمزيد من اللقاءات والحوارات- كتابة ومشافهة، وبحكم الواقع وتأثيراته، وما خبره الإخوان أنفسهم من جناية تحكم الحزب الواحد على حياتهم وحرياتهم ودعوتهم، استجاب جمهورهم إلى فكرة التعدد، بل اقتنعت القيادة بالفكرة، وأصدر مكتب الإرشاد قرارًا تاريخيًا فى ذلك ( مارس 1994)، يدل على حيوية الجماعة، وتحررها من الجمود والتقليد، وأن الحق أحق أن يتبع، وإن خالف رأى مؤسس الجماعة رحمه الله».
اعتبر القرضاوى أن رأى البنا « هو اجتهاد منه رضى الله عنه يؤجر عليه، ولكن الأيام أثبتت خطأه، وأن الخير كل الخير فى التعددية وهو الموافق للنظام الكونى كله، فهو يقوم على التعددية فى كل شيء.. ولا غرو أن خالفت أستاذى وإمامى كما خالف تلاميذ أئمتنا الكبار (أبو يوسف، ومحمد، وزفر) إمامهم الأعظم؟»
أخيرًا، نحن أمام اعتراف «إسلامى» بكونية التعددية، أى بكونها واحدًا من قوانين الاجتماع الضرورية التى تشمل السياسة. لكن السؤال هو: إلى أى مدى تصل حدود هذا الاعتراف؟ هل يعنى تخليًا «نهائيًا وكاملًا» عن مفهوم «الحق الحصرى» الذى يستوجب نفى الآخر باستخدام القوة؟ أم هو مجرد تراجع «مرحلى وجزئى» يؤجل العنف، أو يسمح بقبول الآخر فى إطار البقاء تحت سقف الإسلام؟ فى واقع الأمر يتحدث القرضاوى عن التعددية المقبولة حسب تصوره داخل «الدولة الإسلامية» وليس عن التعددية المدنية داخل الدولة الحديثة.
اكتشاف المزيد من موقع نايفكو
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.