عندما نسمع كلمة “الإفلاس” غالبا ما يكون رد الفعل عليها سلبيًا، حيث تتضمن إغلاق شركة أو كيان اقتصادي لأبوابه وخسارة الكثيرين من الدائنين لأموالهم بما قد يتسبب في تعثر المزيد من الأعمال ويهدد بعض الأطراف التي لم ترتكب أخطاء بالخسارة والمعاناة، فضلا عن تسريح العمالة وتغيير هياكل التوريد في كثير من الحالات.
ولعل أبرز ما يتبادر للذهن هو إفلاس بنك “ليمان براذرز” وما أعقبه من سلسلة من التعثرات تسببت في انفجار الأزمة المالية العالمية، وتسببت في معاناة الاقتصاد العالمي ككل، ولم يكن إفلاس البنك الأمريكي السبب وراء كل ذلك، ولكن أزمة الرهن العقاري والديون السيئة، بيد أن سقوط البنك كان الشرارة التي أدت لتدهور اقتصادي عالمي.
زيادة الكفاءة الاقتصادية
وبشكل عام فإن للإفلاس أضراره المحتمة، ومنها ترجيح إحصاءات أمريكية عن مسؤولية الإفلاسات، بشكل مباشر أو غير مباشر في فقدان 100 ألف شخص لوظائفهم سنويًا، فضلا عن انخفاض قيمة الأسهم في القطاع الذي تنشط فيه الشركة المفلسة – إن كانت قيادية – بنسبة 5% في المتوسط، كما أن إفلاس الشركات يؤثر على نسب الفائدة ويرفعها بشكل عام بما يعرقل جهود التوسع.
ولكن هل يمكن القول بأن إفلاس الشركات شر مطلق؟.. ليس بالضرورة، فكما تؤكد دراسة أجراها معهد “بروكينجز”، فإن الإفلاسات تؤدي إلى زيادة الكفاءة الاقتصادية في الولايات المتحدة بمقدار 0.5% إلى 1% سنويًا. وهذا يرجع إلى أن الإفلاسات تؤدي إلى تحييد الشركات غير الفعالة من السوق، مما يسمح للشركات الأكثر فاعلية بالنمو.
ووفقًا للدراسة نفسها، فإن الشركات التي تعلن إفلاسها هي في المتوسط أقل إنتاجية بنسبة 20% من الشركات التي تستمر، هذا فضلًا عن أن منتجاتها أقل ملاءمة للسوق بنسبة تفوق 70% عن الشركات التي تبقى في السوق 5 سنوات على الأقل.
ويؤكد هذا أن الإفلاس قد يكون مفيدًا في العمل على “غربلة” السوق من المنتجات غير الموائمة، لا سيما مع محدودية الموارد، وبالتالي فإن تخصيص نفس الموارد لشركة تلبي احتياجات السوق من شأنه تنمية السوق والعمل على تكريس النمو لا الحد منه.
آلية للتصحيح
ووفقًا لمعهد الإفلاس الأمريكي، قدمت أكثر من 323 ألف شركة حول العالم إفلاسها بين عامي 2004 و2010، وذلك بسبب الصعوبات التي تواجهها الأعمال الصغيرة والمتوسطة تحديدا، ولا سيما في بدايتها، حيث ذكرت دراسة أجراها مؤخرًا مكتب “دعم إدارة الأعمال الصغيرة” الأمريكي أن حوالي 2.6% من أصحاب الأعمال الصغيرة اضطروا إلى طلب حماية الإفلاس في مرحلة ما خلال السنوات السبع الماضية.
وتعكس هذه الأرقام الكبيرة في اقتصاد قوي مثل الولايات المتحدة أن الإفلاس آلية ناجعة للتخلص من بعض الشركات غير الكفوءة والمعتمدة على المغامرة، وتعمل على تصويب اتجاهات بعض المستثمرين قليلي الخبرة، حيث وجدت الدراسة أن حوالي 70% من الشركات التي تقدمت بطلب للإفلاس تمكنت من العودة للسوق في غضون عامين وأن أكثر من 80% منها (من الـ70% التي تعود) تمكنت من البقاء في السوق لسنوات بعد ذلك.
ويعكس ذلك أن الإفلاس بالفعل قد يتحول لأداة لتصويب الأخطاء، حيث يشكل علامة إنذار واضحة بأن الشركة تسير في اتجاه خاطئ، وأن أسلوب الإدارة وربما المجال والمنتجات تحتاج لتعديل، وبالتالي تعمل الشركة على التصويب، لا سيما أن 70% من الشركات الصغيرة التي أفلست كانت بسبب أخطاء في هيكلة الموارد البشرية، من حيث القدرات أو الرواتب أو من الموردين ومقدمي الخدمات ومدى اعتمادية هؤلاء، وهي أخطاء يسهل معالجتها في التجارب اللاحقة.
وفي هذا الإطار يمكن أن يؤدي الإفلاس إلى إعادة تخصيص الموارد إلى الشركات الأكثر فاعلية، حيث وجدت دراسة أجرتها وزارة التجارة الأمريكية أن الإفلاس يمكن أن يؤدي إلى زيادة الاستثمارات المباشرة بنسبة تصل إلى 5% في قطاع الشركات المُفلِسة، على الرغم من رفعه لتكلفة الاقتراض في القطاع نفسه.
زيادة للقيمة المضافة وللاستثمارات
ووفقًا لدراسة أجراها بنك الاحتياطي الفيدرالي، فإن الإفلاسات تؤدي إلى زيادة الاستثمارات الجديدة في الاقتصاد الأمريكي بمقدار 1% إلى 2% سنويًا. وهذا يرجع إلى أن الإفلاسات تؤدي إلى تحرير الموارد المالية التي يمكن استخدامها من قبل الشركات الجديدة أو الشركات القائمة للاستثمار في النمو.
وعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أجراها معهد الإفلاس الأمريكي أن الإفلاسات في صناعة السيارات في الولايات المتحدة أدت إلى زيادة الاستثمارات في تطوير السيارات الكهربائية، بما أدى لتطوير صناعة قيمتها المضافة أعلى من السيارات التقليدية بما يدعم النمو الاقتصادي القائم بدرجة كبيرة على تنمية القيمة المضافة.
وقد يكون هذا غريبًا بأن إفلاس بعض الشركات قد يخفّض أسعار السلع والخدمات في بعض الحالات، فعلى الرغم من أن التصور بأن استبعاد منافس يزيد الأسعار بسبب تراجع حدة المنافسة، غير أنه في حالات أسواق شبه المنافسة الكاملة يكون الناتج هو العكس.
فمع انسحاب المنتجات الأشد رداءة أو الأغلى سعرًا، فإن المسافة بين المتنافسين في السوق تقترب وتصبح مرجعية الجودة والسعر أفضل (أي المقارنة بين أغلى ثمن وأقل ثمن مع وضع الجود في الاعتبار)، حيث وجدت دراسة أجرتها مؤسسة التمويل الدولية أن الإفلاس يمكن أن يؤدي إلى انخفاض الأسعار بنسبة تصل إلى 10% في السلع والخدمات التي تقدمها الشركات المتعثرة.
وعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أجراها معهد الإفلاس الأمريكي أن الإفلاسات في صناعة الطيران في الولايات المتحدة أدت إلى انخفاض أسعار الرحلات الجوية بنسبة 10% (غالبا ما تكون الشركات المفلسة في هذا القطاع صغيرة وليست كبيرة).
ناقوس خطر
والاستنتاج هنا أن حالات الإفلاس أيضا قد تشكل “ناقوس خطر” على أن الاقتصاد يسير في اتجاه خاطئ، ومن ذلك ارتفاع حالات الإفلاس في الولايات المتحدة في الشهور الثمانية الأولى من عام 2023 بنسبة 176% عن الفترة نفسها في عام 2022 وسط عجز متزايد في الشركات الأمريكية عن سداد ما عليها من التزامات.
ولفتت هذه الظاهرة إلى ظاهرة أخرى أهم وهي عجز الكثير من الشركات أو إحجامها عن الحصول على قروض في ظل وصول سعر الفائدة إلى 5.5% بما يجعلها تراكم ديونًا سيئة لفترات طويلة وتعجز عن الحصول على التمويل اللازم للحفاظ على أعمالها أو حتى التوسع بها بما ينتهي للإفلاس.
فهنا يشكل الإفلاس عرضًا وليس مرضًا في حد ذاته، ويلفت الانتباه إلى الآثار السلبية للاستمرار في رفع أسعار الفائدة.
والشاهد هنا أن المقابل للإفلاس هو عمليات الإنقاذ، بما يبرز المزيد من المزايا للإفلاس، فقرابة 50% من المؤسسات التي تم إنقاذها أمريكيًا إبان الأزمة العالمية ظلت تعاني من ديون سيئة لسنوات طويلة، وعانى غالبيتها من عمليات إعادة هيكلة عنيفة أدت تقريبًا لكافة عيوب عمليات الإفلاس من تسريح عمالة وتأثير على القطاعات الاقتصادية، وذلك مع تكبد الخزانة العامة لتكلفة كبيرة.
كما أن عمليات الإنقاذ تعد وفقًا لكثير من الاقتصاديين بمثابة مكافأة على سوء الإدارة للبعض، باستثناء حالتين، الأولى هي الظروف القاهرة، والثانية هي “حسن النية” أي بمعنى انخراط شركة في شراكة ما مع أخرى دون علمها بسوء حالة الأخيرة المادية والائتمانية، فهنا يصبح الإنقاذ حتميًا وليس اختياريًا للحفاظ على ثقة المستثمرين في النظام الاقتصادي العام، بينما في الحالات الأخرى يجب ترك من يفشلون في السوق ليفلسوا.
ويتأكد مما سبق أن الإفلاس له سلبياته المؤكدة، من تأثيرات على العمالة والاقتراض والشركات الأخرى ومستويات المديونية، لكنه ليس شرًا خالصًا، بل قد يكون في بعض الأحيان بمثابة وسيلة يبقى بها الاقتصاد فتيّاً ويتخلص من الشركات التي تعجز عن مواكبة تحركه للأمام.
اكتشاف المزيد من موقع نايفكو
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.