نحو المستقبل
رحل فى الرابع من مارس 2024م عن دنيانا الفانية أحد أساتذة الفلسفة العظام الذين أصنفهم بالأساتذة أصحاب الرسالة لأنهم ينيرون لمجتمعاتهم الطريق الى المستقبل ويظلون على إخلاصهم لرسالتهم التنويرية دون كلل أو ملل، ويسخرون حياتهم بكل أريحية وبدون صخب لهذه الرسالة أياً كان موقعهم وأياً كانت المصاعب والظروف التى تواجههم !
وهكذا كان د. يوسف سلامة أستاذ الفلسفة الفلسطينى– السورى الذى عاش حياته بين فلسطين وسوريا ومصر واستقر به المقام مؤخراً فى مهجره الأخير بدولة السويد! لقد عرفته منذ حضوره إلى القاهرة مبتعثاً للحصول على الدكتوراه التى كانت بإشراف د. حسن حنفى، وكم كان التوافق بين الأستاذ والتلميذ، فقد كانا من محبى هذا الفيلسوف الألمانى صعب المراس صاحب أكثر المذاهب الفلسفية تأثيراً فى تاريخ الفلسفة بعد أرسطو. وقد تميز يوسف من بين تلاميذ حسن حنفى بالإصرار على مواصلة مشروعه للحصول على الدرجة العلمية رغم المشاكسات والصعوبات التى كان دائماً ما يضعها الأستاذ أمام تلاميذه ليختبر صلابتهم ومدى شغفهم بالبحث الفلسفى وتدريبهم على الكتابة الفلسفية متجاوزين درجة الانبهار بما يكتبه الآخرون حتى لو كان الفيلسوف الذى تخصصوا فى دراسته، فهم ليسوا أقل من هذا الفيلسوف عقلاً وعليهم دائماً أن يرتفعوا لمكانته ويعبروا عن رؤيتهم النقدية له! وكم كان يوسف يشكو لى قائلاً «هو حسن حنفى عايز منى ايه بعد عشر سنوات قضيتها مع هيجل! وبعد أن قدمت له حسب توجيهاته أكثر من خمسمائة صفحة عن موضوعى مفهوم السلب عند هيجل؟!»، فكنت أرد عليه «يا صديقى انه يريدك هيجل جديداً!!».
وإن نسيت فلا أنسى ذلك اليوم الذى جلسنا معاً فى شقتى المتواضعة بالهرم نتناقش ونتبادل الهموم، فهو كان يكتب عن هيجل أعظم فلاسفة أوروبا وأنا أكتب عن أرسطو أعظم فلاسفة اليونان فى نهار رمضان الذى لحقنا فيه وقبل الإفطار مباشرة أستاذ الأدب الانجليزى الشهير د.فخرى قسطندى، حيث اقترب وقت الإفطار فحاولت أن أدعوهم للذهاب لأى مطعم قريب لنفطر وكنت أعلم أن د. فخرى يصوم معنا رمضان فقالا: لم يعد هناك وقت!! فلم أجد الا أن أعد لهم طبق الفول وطبق البيض فهذا ما أجيده! فضحكا معا قائلين : تمام هات ما عندك..هل كنا متصورين أن لديك أكثر من ذلك؟!
كان يوسف سلامة رغم أنه كان كفيفاً يمتلك من خفة الروح وعمق البصيرة ما جعل شقته فى المهندسين قبلة لكل الأساتذة والباحثين العرب يلجأ إليه الجميع وتهفو قلوبهم قبل عقولهم للقاء معه! وكم كنت أقول له: شقتك هذه وأريحيتك تلك هزمت الجامعة العربية! فقد كان شديد الكرم وكثير الاحتفاء بكل الضيوف من عرب وأجانب !
لقد عرف يوماً أننى سأصحب الطلاب فى أسرتى الجامعية فى رحلة الى الأقصر وأسوان ووجدته يذهب للطالب المسئول عن الرحلة ويدفع الاشتراك لنزور معاً تلك المنطقة التى كان يعلم مدى عشقى لها لحبى للفكر والحضارة المصرية القديمة. وكما واجهنا فى هذه الرحلة من أهوال؛ حيث تشاجر الطلاب معاً فى أحد شوارع أسوان وسطوا على أحد محال الجزارة وأخذوا السكاكين فقضينا بقية اليوم والليلة فى قسم الشرطة لفض الاشتباك والحيلولة دون أن يحتجز البوليس الطلاب! ولما ذهبنا الى الفندق بعد أن فككنا أسر الطلاب وجدنا إحدى الطالبات تشكو أنها قد سرقت! فقلت لها يا ابنتى: لا يمكن أن يكون قد فعلها كما تدعين أحد العاملين بالفندق، فأهل أسوان معروفون بالأمانة والصدق!! فأدرك يوسف بحدسه الجميل أن إحدى زميلاتها هى الفاعلة ولكيلا تتصاعد المشكلة قرر يوسف أن يدفع لها ما فقدته وانتهت المشكلة! وظللنا طوال طريق العودة فى حالة من الضحك على ما حدث لنا لدرجة أننا كنا نظل جالسين طوال الليل فى طرقة الفندق بين حجرات الطلاب والطالبات حتى لا يحدث تحرش أو مشكلة بينهم! لقد ذهبنا للاستمتاع والراحة فاذا بنا لا نجدهما!
وهكذا أيضاً حلمنا بأن نلتقى فى مصر أو أوروبا من خلال زيارة مركز الدراسات الذى أسسه فى السويد ومجلة قلمون التى كان يرأس تحريرها أو بمشاركته فى المؤتمر السنوى للجمعية الفلسفية المصرية، لكن لم تسمح لنا تعقيدات الحصول على التأشيرات! لعنة الله على من اخترعها وجعلها حائلاً بين أن يزور البشر بعضهم البعض!
لكم عانيت يا يوسف طوال حياتك ومع ذلك لم تفقد يوماً ابتسامتك ولا شغفك بالحياة ولا حماسك للدفاع عن أفكارك وقضية شعبك فى فلسطين وسوريا، فنم قرير العين اذ اشتعلت المقاومة فى الأرض المحتلة وصرنا فى الأمتار الأخيرة لتحرير القدس ان شاء الله.
اكتشاف المزيد من موقع نايفكو
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.