شغلت العالم في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي بنضالها ضد المستعمر ومواقفها المشرفة في سجون الاحتلال وعادت لتشغله في الألفية الثانية بنداء الاستغاثة الذي صرخت به عاجزة عن دفع تكاليف علاجها وتأمين قوت يومها لتصبح اسيرة المرض والحاجة وليتكفل بعدها الرئيس الجزائري بعلاجها.
جسدت الحلم الثوري بنضالها وكانت أمل كل الثوار، إذ لم يعرف العالم العربي امرأة ذاعت شهرتها أكثر من جميلة بوحيرد التي اصبحت حلما نسويا ووطنيا وعربيا أهلها لتكون بين ابرز 5 شخصيات سياسية عاشت في القرن العشرين لتشغل بنضالها العالم من اقصاه إلى اقصاه.
حلم الثورة
حلمت بالثورة وعاشتها وتاقت لتجربتها مرة أخرى، إذ رغبت في الذهاب إلى «الفيتنام» أثناء الثورة، وطلبت ذلك من الرئيس الجزائري السابق هواري بومدين، حينها اتصل بومدين بقيادة الثورة الفيتنامية ولكن المبادرة استحيل تحقيقها، كما ارسلت في حرب اكتوبر 1973 مع زميلتها «زهرة ظريف» برقية إلى الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد للتطوع في الجيش السوري دفاعا عن الأرض العربية، وهي التي صرحت اثناء زيارتها الأخيرة للبنان قائلة: ان انتصار يوليو 2006 في لبنان لا انساه الى يوم مماتي.
صنعت البطولات والامجاد وارتقت لمرتبة اسطورية نسجتها بدمائها واحيتها في قلوب العالم لتكون جميلة التي لا تشبه أحدا الا وطنها العربي الكبير ولتكون المرأة الفريدة والبطلة والمقدامة وصوت الحق والحرية واغنية الاوطان الثائرة.
عقدة الذنب
«لم أقم إلا بواجبي.. وأنا أحمل عقدة الذنب تجاه الذين قدموا دماءهم»، إن الدعاية التي أثيرت من أجلي واثارت الضمير العام العالمي، اعطتني حجما أكبر من حجمي، لقد أخذت أكثر من حقي ولو تكلموا عني كثيرا فأنا لم أقم إلا بواجبي، هكذا قالت جميلة بوحيرد في أحد لقاءاتها الصحافية مع مجلة الحدث العربي، وهي من المرات النادرة التي تكلمت فيها بعدما حرفت احدى الصحف العربية عام 1963 حديثا لها ما اثار غضبها آنذاك.
أكثر ما يحزنها ان تمتدح طلاقتها بالفرنسية أليس معيبا أنني لا أجيد سوى العربية الدارجة فهي في حالة اعتزاز دائم بلغتها العربية وقد سألتها حفيدتها فاطمة، في مزيج من العتب والتأنيب «أين كنت عندما كان يجب أن تتعلمي العربية؟ ومن سيعلمني القرآن الآن إن لم تكن جدتي»؟ وشعرت جميلة بوحيرد بالخجل. وقالت للطفلة في عامها السادس «يا فاطمة، كنت أحارب من أجل أن يتعلم أبنائي واحفادي القرآن باللغة العربية. أنا لم يكن لي حظك».
عشقت الفروسية ومارستها فكانت فارسة بارعة في ركوب الخيل، كما برعت في تصميم الازياء والرقص الكلاسيكي الا ان كل ذلك لم يخفف من جذوة الوطنية والثورة، في داخلها.
رحلة النضال
بدأت قصتها في 26 يناير 1957 عندما انفجرت قنبلة موقوتة في ملهى يتردد عليه الشبان الفرنسيون الذين يؤدون خدمتهم في الجزائر، وتتالت الانفجارات بعد ذلك بأيام، وفي 9 ابريل 1957 اصطدمت دورية للاحتلال بثلاثة اشخاص خرقوا منع التجول في الحي الذي تسكن فيه جميلة، اي حي القصبة الواقع في المدينة القديمة، فهرب هؤلاء، لكن الدورية أطلقت النار عليهم، ارتفعت صرخة وبقيت امرأة مطروحة على الأرض، كانت هي جميلة بوحيرد وقد عثر معها على وثائق ورسائل ومبلغ كبير من المال، دلت على انها كانت صلة الوصل مع قائد فدائيي الجزائر ياسف سعدي.
اقتيدت الى مركز تحقيق المظليين بحجة ان دوريتهم عثرت في صباح ذلك اليوم على فرنسي كان يلفظ أنفاسه وهو مقيد الى شجرة وان عائلته قتلت على يد الثوار بعد حرق منزله ومزرعته، فدار التحقيق مع جميلة وهي مصابة برصاصة في صدرها وعذبت بواسطة الكهرباء، وقد أشارت د.جانين بلخوجة في التقرير الطبي الذي قدمته اثناء محاكمة جميلة الى انها ضربت وأحرقت بالكهرباء في مكان الجرح المصابة به وبعجز عن رفع ذراعها اليسرى، ووصف الصحافي اندريه فروسار في جريدة «لوروا» هذا التعذيب، محركا الرأي العام الفرنسي.
بعد هذه المرحلة انتقلت جميلة بوحيرد لسجن «باربدوس» أشهر مؤسسات التعذيب، وبدأت نوبات اخرى من التعذيب الأشد قسوة وضراوة، واستمرت احدى جلساتها 18 ساعة تعذيب متواصلة حتى ان جسدها الضعيف لم يتحمل ذلك فأغشي عليها وأصيبت بالهذيان وبعد تلك النوبات الشديدة من التعذيب بدأ بعدها السماح لها بوجود تحقيق رسمي، حيث تطوع المحامي الفرنسي جاك فيرغس للدفاع عنها.
محاكمة صورية
تم تضمين ملف القضية صورة من تحقيق ادعت فيه المحكمة ان جميلة بوحيرد أدلت به، في حين انكرت الأخيرة ذلك، وما كان من المحكمة إلا ان انتهت الى توجيه عدد من التهم لجميلة بوحيرد ومن تلك الاتهامات «احراز مفرقعات والاشتراك في حوادث قتل وفي حوادث شروع في قتل»، بالاضافة الى تدمير مبان بالمفرقعات والاشتراك في حوادث مماثلة مع توجيه تهمة الانضمام الى جماعة من القتلة «وخمس فقط من هذه التهم عقوبتها الإعدام» لمن قام بها وذلك ما أرادت الحكومة المتواطئة القيام به.
لم تدم تلك المحاكمة اكثر من عدة ايام فقط، فقد كانت تعمل على تهيئة الأجواء لإعدام بوحيرد وكانت بوحيرد تدرك ذلك جيدا لكنها لم تتراجع عن أقوالها الحقيقية، وجاءت لحظة نطق المحكمة بالحكم المعد مسبقا وكانت المحكمة شكلية ونطقت بالحكم بإعدام جميلة بوحيرد، وهنا انطلقت جميلة في الضحك الهستيري في قوة وعصبية في الوقت نفسه.
ما دفع القاضي الى ان يصرخ فيها قائلا: «لا تضحكي في موقف الجد» وكأنها محاولة من المحكمة لكي تفرض منطق الجدية على حكمها الذي كانت تشوبه الكثير من العيوب وليس فيه إلا جدية تزييف الحقائق.
حكم الإعدام
واجهت جميلة بوحيرد حكم الإعدام عام 1957 بخــــطاب مقتضب، جاء فيه: «أيها السادة، إنني أعلم انكم ستحكــــمون علــــي بالإعــــدام، لأن أولئك الذيــــن تخــــدمــونهم يتشوقون لرؤية الدماء، ومــــع ذلـــــك فــــأنا بريئة، لقد استندتم في محاولتكم إدانتي الى أقوال فتاة مريضة رفضتم عرضها على طبيب الأمراض العقلية لســـبب مفهوم، وإلى محضر تحقيق وضعته الشــــرطة ورجال المظلات وأخفيتم أصله الحقيقي حتى الـــيوم، والحقيقة انني أحب بلدي وأريد له الحرية، ولهذا أؤيد كفاح جبهة التحرير الوطني، لكنكم اذ تقتلوننا لا تنسوا انكم بهذا تقتلون تقاليد الحرية الفرنسية، ولا تنسوا انكم بهذا تلطخون شرف بــــلادكم وتعرّضون مستقبلها للخطر، ولا تنســـوا انكم لن تنجحوا أبدا في منع الجزائر مــــن الحصول على استقلالها».
وقام محاميها الفرنسي، جاك فيرغس، الذي تزوجته بعد تحريرها، بحملة علاقات عامة واسعة أكسبته شهرة عالمية، حملة أسهمت بتحريك الرأي العام العالمي تأييدا لجميلة، ما أجبر الفرنسيين على تأجيل الحكم، متعمدين إخفاء موعده هذه المرة عن الإعلام، لكن استمرار الضغط أجبرهم على تعديل حكم الإعدام الى السجن مدى الحياة.
ولم تلبث في سجن الجزائر سوى 3 سنوات نقلت بعدها الى سجن فرنسي، قضت فيه سنتين، ليطلق سراحها مع بقية رفاقها في إطار المفاوضات بشأن إطلاق سراح الأسرى الجزائريين تدريجيا، إثر توقيع اتفاقيات «ايفيان» وإعلان استقلال الجزائر عام 1962.
نداء الاستغاثة
وبعد كل هذا التاريخ المجيد الذي سطرته البطلة العربية صُعق الرأى العام العربي والجزائري خصوصا في نهايات العام 2009 بنداء استغاثة وجهته للشعب الجزائري تطلب منه مساعدتها للعلاج في الخارج من عدة امراض تعاني منها، وجاء في الرسالة الصدمة:
«سبب مخاطبتكم هو اقتناعي بأنكم تمثلون شعبا متعددا وكريما أحبه كثيرا، أشعر اليوم بضرورة طلب مساعدتكم، اسمحوا لي بتقديم نفسي، انا جميلة بوحيرد، حكمت علي المحكمة العسكرية في الجزائر عام 1957 بالإعدام».
وأضافت: «أجد نفسي اليوم في وضعية جد حرجة. مريضة. نصحني الأطباء بإجراء 3 عمليات جراحية، صعبة ومكلفة، لكن لا أستطيع تحمل تكاليفها، منحة التقاعد ومعاش الحرب المتواضع لا يغطيان احتياجات العمليات الجراحية»، وهنا تتعالى على كبريائها الثورية، لتطلب بكل تواضع من الشعب الجزائري «مساعدتي ضمن إطار إمكاناتكم».
ولم يتأخر الرد الجزائري الرسمي كثيرا حيث أمر الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة بنقلها الى باريس للعلاج من وعكة صحية ألمت بها.
وذكرت صحيفة «الخبر» الجزائرية حينها ان جميلة سافرت الى باريس على متن طائرة تابعة لشركة الطيران الجزائرية الحكومية لتلقي العلاج بأحد المستشفيات الراقية، بعد ان استكملت كل الإجراءات اللازمة مع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الجزائري الذي تكفل بمصاريف العلاج بأمر من بوتفليقة.
ولتبقى جميلة رمزا للحرية والنضال في العالم.
جميلة في الكويت
كانت ثورة المليون شهيد ثورة للعالم العربي كله وليس فقط للجزائر، وكانت الكويت من ضمن الدول التي أضحت فيها بوحيرد نموذجا مضيئا للمرأة المقاومة وتحول يوم زيارتها الكويت في عام 1962 الى يوم مشهود حيث استقبلت استقبال الأبطال. وأعد لها جدول حافل بالزيارات والمقابلات وأقيم لها خصوصا مهرجان رياضي في ثانوية الشويخ وقد نالت من الحفاوة ما لم ينله ضيف بهذا المستوى.
السيّاب وقباني وفيروز ووردة وشاهين خلَّدوا بطولات جميلة بوحيرد في سماء الفن والشعر
تحولت جميلة بوحيرد ببطولاتها ملهما أساسيا لكبار الشعراء والأدباء والمخرجين والممثلين حيث تسابق الجميع لتسطير القصائد ونظم أبيات الشعر وإخراج الأفلام لتخليد مسيرتها، ومن ضمن تلك الباقة الفنية فيلم المخرج يوسف شاهين «جميلة» والذي قامت لبطولته الفنانة المصرية القديرة ماجدة وكذلك في مصر حيث دعا الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر بوحيرد الى القاهرة التي أقيم فيها حفل فني شدت فيه مواطنتها الفنانة وردة الجزائرية بأغنية خاصة لها «كلنا جميلة البطلة النبيلة».
فيروز
ومن وردة إلى فيروز التي غنت لها «رسالة إلى جميلة»:
جميلة، صديقتي، جميلة، تحية إليكِ حيث أنتِ
في السجن في العذاب حيث أنتِ
تحية إليك يا جميلة، من ضيعتي أغنية جميلة
وخلف بيتي لوزة تزهر وقمر أخضر
وموجة رملية من شطنا تبحر
تحية إليكِ يا جميلة، يا وردة الجزائر الجميلة
قصتك الأحب من طفولة تزرع وجه الشمس بالبطولة
هناك في الجزائر معابر الزيتون
في صمتها ينبت ثائرون
ويحلمون بالعدل والسلام والزيتون
وفي حنين البال تزهر دنيا حلوة الظلال
وساحة للشمس والأطفال
هناك في الجزائر حيث التراب ثائر
متى متى الصباح والبشائر
بدر شاكر السياب
ومن عيون الشعر العربي كتب بدر شاكر السياب قصيدته «إلى جميلة بوحيرد» ومنها:
لا تسمعيها ان أصواتنا
تخزى بها الريح التي تنقل
باب علينا من دم مقفل
ونحن في ظلمائنا نسأل
من مات من يبكيه؟ من يقتل
من يصلب الخبز الذي نأكل
نخشى إذا واريت أمواتنا
أن يفزع الأحياء ما يبصرون
إذ يقفر الكهف الذي يأهلون
ان عربد الوحش الذي يطعمون
من أكبد الموتى فمن يبذل
يا أختنا المشبوحة الباكية
أطرافك الدامية
يقطرن في قلبي ويبكين فيه
يا من حملت الموت عن رافعيه
من ظلمة الطين التي تحتويه
إلى سماوات الدم الوارية
نزار قباني
أما نزار قباني فقد أهداها قصيدة أخذت صدى كبيرا وهي:
الاسم: جميلة بوحيرد
رقم الزنزانة: تسعونا
في السجن الحربي بوهران
والعمر اثنان وعشرونا
عينان كقنديلي معبد
والشعر العربي الأسود
كالصيف..
كشلال الأحزان
إبريق للماء.. وسجّان
ويد تنضم على القرآن
وامرأة في ضوء الصبح
تسترجع في مثل البوح
آيات محزنة الإرنان
من سورة (مريم) و(الفتح)
——–
الاسم: جميلة بوحيرد
اسم مكتوب باللهب..
مغموس في جرح السحب
في أدب بلادي. في أدبي..
العمر اثنان وعشرونا
في الصدر استوطن زوج حمام
والثغر الراقد غصن سلام
امرأة من قسطنطينه
لم تعرف شفتاها الزينه
لم تدخل حجرتها الأحلام
لم تلعب أبدا كالأطفال
لم تغرم في عقد او شال
لم تعرف كنساء فرنسا
أقبية اللذة في (بيغال)
الاسم: جميلة بوحيرد
أجمل أغنية في المغرب
أطول نخله
لمحتها واحات المغرب
أجمل طفله
أتعبت الشمس ولم تتعب
يا ربي.. هل تحت الكوكب؟
يوجد انسان
يرضى ان يأكل.. ان يشرب
من لحم مجاهدة تصلب..
اكتشاف المزيد من موقع نايفكو
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.